البأساء والضراء (1)
<a href="mailto:[email protected]">d_almakdob@hotmail.com</a>
اللهم لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد – أهل الثناء والمجد – أحق ما قال العبد – وكلنا لك عبد -، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله وهو الغني الحميد* إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد* وما ذلك على الله بعزيز).
إن الله سبحانه وتعالى خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً وإن الله تعالى كما يبتلي عباده بالسراء كذلك يبتليهم بالضراء، وإن الابتلاء بالسراء والنعم أشد والله على النفس من الابتلاء بالضراء والنقم، فالله سبحانه وتعالى كما سمى الموت فتنة وعذاب القبر فتنة كذلك سمى المال فتنة – والمال نعمة -، وسمى الولد فتنة، وسمى الحياة فتنة، قال سبحانه وتعالى: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم) فالله عز وجل إذا ابتلى العباد ابتلاهم بالأدنى ثم بالأعلى، فالله عز وجل لا يبتلي العباد بالنعماء أولاً وإنما يبتليهم بالضراء أولاً، فإن ابتلاهم بالأدنى ولم ينتبهوا ابتلاهم بعد بالأعلى، كما قال سبحانه وتعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون* فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون).
البأساء والضراء كفيلان بالكشف عن نوعية القلب الذي يحمله ذلك المبتلى، البأساء والضراء كفيلان ببيان هذا المبتلى أمام عدوه الأكبر الشيطان الرجيم، إن قسوة القلب لا تظهر بالابتلاء بالنعم، وإنما تظهر بالابتلاء بالنقم، كذلك أدنى درجات تسلط الشيطان على الإنسان إنما يكون عند قلة النعم، ويبلغ هذا التسلط ذروته عند فتح أبواب كل شيء، فمن أغواه الشيطان عند حلول البأساء بأن زين له سوء عمله فهو من التخلص عند النعمة أبعد، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى ينزل البأساء والضراء لكي يكشف عن حقيقة القلب، ومن ثم يكشف عن صلابة ذلك المبتلى أمام الشيطان.
وهذا هو التسلسل الصحيح فإنه لو كان هناك ابتلاء بالنعم لا يظهر من قلبه لين ومن قلبه قاسٍ ولا يظهر كذلك من كان الشيطان متسلطاً عليه تسلطاً كاملاً ومن كان الشيطان متسلطاً عليه تسلطاً قليلاً, والله سبحانه وتعالى أخبرنا أيضاً عن خطورة الابتلاء بالسراء فقال عز وجل: (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض)، إذا أنعمنا عليه أعرض وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض، أي لله سبحانه وتعالى فإذا كان الرجوع مؤملاً فيه فإنه سيرجع عند البأساء ولن يرجع عند النعماء، إذا لم يرجع عند البأساء والله سبحانه وتعالى قد صور لنا ذلك في سورة الكهف في قصة صاحب الجنتين فقال عز وجل:
(واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً* كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجرنا خلالهما نهراً* وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً) (الكهف: 32 ، 34).
انظر إلى من منحه الله جنتين كفر بالله تعالى وتكبر على المؤمن قائلاً: (أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً)، وقال أيضاً: (وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً* قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً) كفر بالنعمة فقال له صاحبه: (ولولا إذا دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً* فعسى ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقا) (الكهف: 39 ، 40)، وصار ما قاله ذلك المؤمن: (فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا).