املأ الفراغ: طائرة بدولار!
احتباس البخار يولد الانفجار, قانون بسيط وغير قابل للنقاش أو للجدل ولا يمكن أن تتغير تلك المعادلة إذا كان البخار من مياه أمريكية أو آسيوية أو إفريقية أو عربية. ففيزياء المادة لا تعترف بجنسية.
وقوة قوانين الفيزياء أنها أخذت براهينها وإثباتاتها من مراقبة الظواهر الطبيعية. لكن الحكاية مع قوانين الاقتصاد مختلفة لأنها تعترف بالجنسيات والحدود وبأن لكل بلد قانونه الاقتصادي الخاص لكن البرهان الذي أثبتته الثورات والانتفاضات الشعبية يشير إلى أن ردود أفعال البشر واحدة تجاه ما يتم تطبيقه من تعليمات ونظريات اقتصادية.
فالأوضاع التي تمر بها الكثير من مناطقنا العربية كانت قد مرت بها دول عديدة في أمريكا اللاتينية أي عندما نتحدث عن حكومات تكون تركيبة أغلبيتها من رجال الأعمال, الذين يتسلمون إدارة أهم الشركات والمؤسسات الحيوية في البلاد ومن ثم يلجأون إلى الاقتراض وتكبير محفظة ديون تلك الشركات ويتبع ذلك إعلان فشلها ومن ثم خصخصتها وتهريب أموال الخصخصة إلى الخارج, مما سيترتب عليه حتما, عجز في ميزانية الدولة أو زيادة مديونتها لأنها تتحمل ديون شركاتها التي وصفت بالمتعثرة وصرف أعداد كبيرة من الموظفين والعمال واستفحال الغلاء وضعف قيمة الرواتب الشرائية مما سيؤدي بالناس للنزول للشوارع.
إنه قانون الانفجار المتولد من الظلم والاستغلال وسرقة البلاد الأمر الذي يصح في أي بقعة جغرافية.
والمعادلة المركبة من تلك العناصر سوف تؤدي حتما إلى تحويل دول كانت تتمتع بموارد عديدة وبسمعة صناعية وإنتاجية إلى مجرد متسول على أبواب المؤسسات المالية العالمية.
ومن الأمثلة العديدة تحول دولة مثل الأرجنتين من قوة صناعية كبرى في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات إلى دولة مدينة في عهد الحكومات الدكتاتورية أواخر السبعينيات، حيث ازدادت ديونها بمقدار 20 ضعفا بسبب الإفراط بالاقتراض, وكانت آلية التسديد تعتمد على تحويل قسم كبير من الضرائب التي يدفعها الأرجنتينيون إلى المؤسسات المالية التي تمتلك 80 في المائة من ديون الأرجنتين.
ومن أهم صفقات الخصخصة الأرجنتينية في 1999, بيع طائرات بيونج 707 التابعة لشركة الطيران الأرجنتينية, «بدولار رمزي» إلى شركة أيبريا الإسبانية بدعوى أنها طائرات قديمة ومتهالكة. وبعد بضع سنوات كانت تلك الطائرات بالذات لا تزال تخدم في الشركة المخصخصة لكن عليها أن تدفع إيجارا لتتمكن من استخدامها.
وتم تقدير حقوق استخدام الطرق الجوية للشركة الأرجنتينية الحكومية بـ 60 مليون دولار بينما تبلغ قيمتها الفعلية 800 مليون، وكان مبلغ تنازل الحكومة عن تلك الشركة لمصلحة أيبريا 140 مليون دولار.
وقد اقترضت أيبريا لتشتري الشركة وحملت كامل عبء القرض على الحكومة, وفي 2001 كانت الشركة التي تمتلكها أيبريا على حافة الإفلاس وجرى التنازل عنها بعد تحريرها من ديونها التي تحملتها الحكومة. وبلغ مجموع الديون 900 مليون دولار ولم تكن تمتلك إلا طائرتين من أصل 29 طائرة كانت بحوزتها في 1999 وهو العام الذي بدأت فيه الشركة إجراءات الخصخصة.
وبعد سلسلة مفرطة من الخصخصة انتفض الشعب الأرجنتيني في كانون الأول (ديسمبر) 2001, ضد حكومة فرناندو ديب لاروا وتوالى على البلاد ثلاثة رؤساء جمهورية خلال 2001 و2002 وأعلن عن تعليق تسديد الدين الخارجي وجرى احتلال المئات من المصانع التي هجرها مالكوها.
إذا معادلات الاستغلال والخصخصة المفرطة لا تؤدي إلا إلى نتيجة واحدة يحسمها الشارع إن كان عاجلا أو آجلا وإن كنا أفرغنا مكان «الأرجنتين» فيصح أن نضع أي دولة أخرى في الفراغ إذا كانت معادلة السياسة الاقتصادية تتبع التركيبة الأرجنتينية.