الإصلاح السياسي في الأردن .. الأجندة الداخلية والخارجية
تبدو المطالبة بالإصلاحات السياسية في الأردن وبطريقة متشنجة فيها شيء من الغرابة، فالكل يطالب منذ فترة بقانون انتخاب جديد، وبمكافحة الفساد، وهي مطالب اجتماعية وسياسية ليست مقصورة على الحركة الإسلامية وحدها، وقد استجاب الملك عبد الله الثاني في وقت سابق لحل البرلمان الخامس عشر لتدني مستواه ولضعف دوره الرقابي والتشريعي ولهيمنة الحكومات عليه، وأقال حكومة دولة سمير الرفاعي بعد شهر من نيلها ثقة نيابية كانت لافته للانتباه، وكانت الإقالة حول شبهة فساد في الانتخابات الأخيرة، وعدم قدرتها على مواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وركونها للحلول الإدارية والإعلامية، وكذلك تطاولها على الإعلام ومحاولتها تهميشه، وفي كل فترة كان الملك عبد الله الثاني يقوم بجولات وزيارات خاصة يلتقي فيها النخب السياسية والاقتصادية والحزبية والنقابية، في بيوتها ومنازلها، وكان يستطلع المتغيرات، وكذلك التواصل مع الحركة الإسلامية، التي لم تشارك في الانتخابات الأخيرة وكانت تطالب بتعديل وإقرار قانون انتخابات جديدة.
إقالة حكومة الرفاعي مهدت الطريق لحكومة جديدة يترأسها الدكتور معروف البخيت، وكان كتاب التكليف السامي محددا وواضحا، بضرورة الإصلاح الحقيقي، وفي لقاء الملك وقادة الحركة الإسلامية قال الملك مداعبا: حكومة البخيت 2011 مختلفة عن حكومة البخيت 2007؛ ونتيجة لذلك شكلت الحكومة لجنة للحوار الوطني لإقرار الإصلاحات المطلوبة، غير أن الإسلاميين وجدوا أن الظروف العربية ملائمة لمزيد من الحرد ومزيد من فرض الشروط والمطالب، فكانت مطالبهم أن تكون اللجنة مرجعيتها الملك وليست الحكومة، في حين أن الملك أعلن خلال لقائه اللجنة بأنه ضامن لما يصدر عنها من نتائج، وقام رئيس الوزراء البخيت بعرض سبعة مقاعد على الحركة في اللجنة ذاتها، بينما عرض عليها رئيس اللجنة، رئيس مجلس الأعيان طاهر المصري خمسة مقاعد، لكن الحركة الإسلامية ظلت ترفع في مطالبها، وتختلف من وقت لآخر، لدرجة أدى ذلك لأن يفهم منه أن لدى الحركة أجندات خاصة، أو تفاهمات مع مكاتب إقليمية للإخوان المسلمين.
اللجنة شكلت بطلب من الملك عبد الله الثاني لرئيس الحكومة، وقد أرسل الملك بعد أيام رسالة للحكومة ولرئيس اللجنة يطالبهم بضرورة الاستعجال في البت في القضايا والمطالب الشعبية، وفي الوقت ذاته زار الملك هيئة مكافحة الفساد وقال لرئيسها إنه ليس هناك كبير على المساءلة القانونية حتى الديوان الملكي يخضع للمساءلة، وإحالة الحكومة للهيئة ملفات عديدة لشركات وشخصيات ومسؤولين، وقد خضع رئيس الوزراء الحالي معروف البخيت لاستجواب من هيئة مكافحة الفساد، في خطوة تؤكد التزام الدولة بمحاربة الفساد ورموزه، وصدرت تعليمات بعدم سفر بعض الشخصيات ممن هم على قائمة المساءلة.
الإسلاميون أرادوا نقل التجربة المصرية في ميدان التحرير إلى عمان وإلى دوار جمال عبد الناصر فنصبوا الخيام وأعاقوا حركة المرور، في حين أثار المنظر وطريقة الحركة الإسلامية الشارع الأردني، الذي يرى أن المطالبة بالإصلاح لا تكون بالنزول إلى الشارع، وكأن الحركة الإسلامية تثأر بشكل شخصي من الحكومة، رغم أن لجنة الحوار الوطني دخلت في نقاشات جادة حول شكل قانون الانتخابات والأحزاب والتعديلات الدستورية الممكنة، وإعلان الملك أنه ضامن لنتائجها، فما المطلوب بعد ولماذا هذه الحركات؟.. وكان قيام بعض الشباب المدعوم من الحركة الإسلامية بنصب الخيام قد استفز الشارع الأردني، وقد كان فرصة أيضا لقوى الشد العكسي التي لا ترغب في الإصلاحات، فقامت مجموعة من الشباب الأردني الذين سمو أنفسهم "24 آذار" ممن يرفعون شعارات "القصر والملك فوق الجميع" ويطالبون بالعدالة ومكافحة الفساد، بالاصطدام مع الإسلاميين ودخل في وسط هذه المعمعة قوى محسوبة على رموز الفساد، وهناك أناس جاؤوا من مناطق خارج العاصمة ممن يرون في التحرك وفق النموذج المصري تهديدا للنظام وانتقاصا من جهود الملك الدؤوبة؛ مما جعلها تفكر بمهاجمة شباب "24 آذار" فاضطرت الحكومة والأجهزة الأمنية إلى تفريق الاحتجاج.
الملك عبد الله الثاني في لقائه الأخير بأعضاء لجنة الحوار الوطني قال: "إنه يضمن تحقيق الإصلاح"، لكن مشكلة الأردن ليست في ذلك؛ فالإصلاح من المفروض أن تصنعه المؤسسات والقوى السياسية مع توافر الإرادة السياسية العليا، لكن لما يجري أيضا إرهاصات داخلية، فالحركة الإسلامية مخترقة من تنظيم حركة حماس، وحماس تنظيم فلسطيني وليس له حق العمل في الأردن، والأردن يعترف بالحركة الإسلامية، لكنه يعارض أن يكون للحركة الإسلامية الأردنية والفلسطينية مكتب واحد، تسيطر عليه حركة حماس، وأسهم في السنوات الأخيرة في شق الحركة، حيث بدأت النغمة الفلسطينية هي المحرك الرئيس للحركة الإسلامية الأردنية وتخضع لأجندتها، ولحماس أجندة وعلاقة مع إيران وحزب الله نحترمها في إطارها الفلسطيني، وليس في الإطار الأردني، ونتيجة هذا الاختلاف ظهرت بوادر التوتر فيه في الحالة التمييزية بين الإخوان من أصول فلسطينية والإخوان شرق الأردنيين، وكانت السيطرة لمن هم من أصول فلسطينية كادت أن تعصف بقيادات أردنية في الحركة، إضافة إلى الخلافات الداخلية حول المشاركة في الانتخابات النيابية، والتي لمس البعض أنها انعكاس لعلاقة الحركة بحماس، وهنا تمت المطالبة بفصل السيامي الأردني الفلسطيني، أي مكتب الأردن وفلسطين في المكتب الدولي، لكن ظل الحمساويون يعملون، لكن ضمن الحركة الإسلامية ولهم كلمة فيها؛ ما أربك الحركة وأفقدها كثيرا من توازنها المعهود وعرّى أوراقها وقلّص شعبيتها أيضا.
إضافة إلى أن ثمة قوى من أصول شرق أردنية وطنية تقليدية يشككون وينظرون بريبة للعملية الإصلاحية، وكأنهم يريدون الإصلاح أن يأتي فقط من خلالهم أو أن تواجه الدولة النموذج التونسي والمصري ويأبون على غيرهم أن يتقدموا به ولو كان رأس الدولة الذي لطالما أوعز بضرورة الإصلاح والسعي نحو مكافحة الفساد.
ومع ذلك، الأردنيون جميعا لا تمثلهم معادلة أهل المعارضة في مقابل أهل الولاء، فهناك مجاميع أردنية من أصل فلسطيني ترى أن حركة الإخوان جرت الأردن لتحالف تاريخي ضد قوى الأحزاب التقدمية أو اليسار الوطني وهذه المجاميع تشارك في الأطراف بعيدا عن عمان وبفاعلية بالانتخابات ويدعون للإصلاح من داخل النظام، وتشكل نخبة اقتصادية وسياسية منهم في عمان باعتبارها قوى حية، وهناك أردنيون من أصل شرق أردني يعارضون الحكومات أيضا، لكن جميع هؤلاء لا يرون بغير العائلة المالكة بديلا وكثير من الفلسطينيين تقدموا بالأردن ودفعوا حركة الإصلاح والتنمية بالقدر الذي بذل فيه أبناء القبائل والريف من روح وطنية وإسهام في بناء المؤسسات والدفاع عن هوية الدولة والوقوف مع النظام السياسي الذي واجه منذ الخمسينيات أزمات عدة، منها الاستقطاب الدولي والجمهوريات العربية التقدمية ووعودها التي كانت ترى فيه نظاما رجعيا عميلا، وفي النهاية تقدم الأردن بإمكاناته البسيطة وشيد مؤسسات وأهل كفاءات وموارد بشرية مدربة تفوق كل الوعود الثورية التقدمية العربية قياسا لإمكاناته البسيطة.
الواقع الأردني ليس جديدا؛ إذ بدأ الأردن توجها إصلاحيا منذ عام 1989، وفي تلك السنة أجريت انتخابات شفافة دخل بموجها كل الأطياف في معادلة الديمقراطية الجديدة ومعهم الإخوان الذين وافق المجلس الذي كانوا به على معاهدة وادي عربة، آنذاك في عز قوتهم لم يغادروا مجلس النواب، ومع أنهم أحجموا عن المشاركة في انتخابات عام 1997 التي جرت بمبدأ الصوت الواحد الذي أقر عام 1993، إلا أنهم عادوا للمشاركة في الانتخابات عام 2003 وما لبثوا أن قاطعوا وكذلك عام 2007، ثم قاطعوا الانتخابات في عام 2010 التي جرت بمبدأ الدوائر الوهمية.
للإخوان الحق في كراهية المشاركة بانتخابات تجري بمبدأ الصوت الواحد وكذلك مبدأ الدوائر الوهمية، ويشاطرهم جل الأردنيين هذا الشعور، والإخوان على ما يبدو، فاقدو الثقة في الحكومات، مع إيمانهم بالأردن وقيادته، لكن هذا الإيمان كان يفرض عليهم المشاركة بلجنة الحوار الوطني التي شكلت أخيرا لإخراج قوانين الإصلاح المطلوب، والتي كانت أولى توصياتها إلغاء قانون الصوت الواحد واعتماد النظام المختلط، وكان أولى بالحركة الإسلامية أن تسهم بهذا الإنجاز المهم في مسار الإصلاح السياسي.
تبقى مسألة الداخل الإخواني في ظل التحول الإقليمي، والتحذير من تحول الثورات العربية الراهنة إلى دول متشددة دينيا، وفي المنطقة السؤال اليوم: هل تقود حركة الإخوان المشهد؟ في ظل انقسامها أردنيا ومصريا وحتى فلسطينيا، وفي ظل تصاعد رغبة جيل الشباب بها بالدعوة لضرورة الإفادة من المرحلة ومواكبة السجال الإقليمي والتحول العربي الشامل في السعي للإصلاح؟ ويذكر أن الانقسامات بدأت تدب داخل مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين في مصر بعد محاولة تمرد شباب الإخوان على قياداتهم؛ الأمر الذي جعل قيادات مكتب الإرشاد يجرون اتصالات مكثفة وسريعة بعدد من المدونين المنتمين للإخوان وإجبارهم على نفي ما تردد من أخبار وإلا سيتم التبروء من انتمائهم للجماعة وحظر التعامل معهم.
على أرض الواقع تسود البيت الداخلي الإخواني الأردني هذه الأيام حالة من "فوضى المواقف"، ومثال ذلك ما طرح في الأردن أخيرا عن رؤية "لإخوان مدينة السلط" و"إخوان عمان"، وسبق ذلك رسوخ الانقسام بوجود تيار الحمائم وتيار الصقور، ومثل هذا الانقسام ترسخ مصر بكثافة بعد ثورة ميدان التحرير.
وهذه الفوضى تعكس صراعا بين تيار قديم بزعامة القيادات التاريخية للجماعة الموجودين حاليا في مناصبهم القيادية الإخوانية، وبين تيار جديد يقوده شباب متحمسون ومنفتحون على الآفاق الحزبية والسياسية بصيغتها العالمية، ويرجح المراقبون أن يسفر هذا المخاض عن ولادة قيادة إخوانية جديدة تطيح بالواقع القديم ورموزه، في ظل غضب شعبي أردني على الحركة الإسلامية لعزوف رموزها عن دعوة الملك بالمشاركة في لجنة الحوار الوطني.
في مقابل هذا الواقع من الانقسام الداخلي في صفوف الحركة، تتم مواجهة التحدي بمحاولة الحركة درء الانقسام بدفع الريح في الشارع ضد الحكومة الأردنية، وبتبني حركات الاحتجاج الاجتماعي والاقتصادي مثل دعم مطالب المعلمين بحق النقابة أو تبني قضايا عمال المياومة أو الالتفاف على جيل الشباب ومساعدتهم بالتنظيم لمسيرات متكررة ضد الحكومة في الأردن، وكان آخرها اعتصام حركة شباب 24 آذار في ميدان عبد الناصر، حيث قدمت الحركة دعما لوجستيا وتنظيميا للشباب الذين يعلنون الولاء للملك والوطن لكنهم يريدون الإصلاح ومكافحة الفساد.
إخوان اليوم ليسوا كما الحال أمس، هناك تحول عالمي يحاولون اللحاق به، وشباب كثر يراجعون مسارهم في السلك التنظيمي للإخوان، ويبدو أن ملامح التغيير تبلورت في العديد من التطورات الدراماتيكية، كالتصعيد الإخواني في العديد من الدول العربية، والتهديد بـ "الانفجار" الكبير الذي خلق تململا كبيرا داخل القيادات الإخوانية، فضلا عن مخاوف حكومية من هذا التهديد غير المسبوق على الصعيد الإخواني والعمل الحزبي والحركي التنظيمي، في المقابل تنشط الحركات الدينية والجمعيات الإسلامية أيضا لتنال نصيبها من حركة الشارع.
في الراهن تحاول الحركة الإسلامية أن تستثمر بأي فرصة بعدما راقب الناس تراجعها عن المشاركة في أي منجز إصلاحي وبعدما رفضوا الجلوس مع رئيس الحكومة عل طاولة الحوار الوطني، وكما يعلق معروف البخيت رئيس الوزراء أن أحد قيادي الحركة الإسلامية قال له: "إذا جلست معكم على الطاولة سأخسر الشارع"، وهناك يبدو المبتغى الحقيقي الذي تريده الحركة الإسلامية، ففشل شعار "الإسلام هو الحل" في الأردن وعدم قدرته على التغيير، يجعل الحركة الإسلامية تتحسس رأسها وتبقي على أي وسيلة اتصال بالجماهير بعدما تفوق الشارع والفيسبوك على المنبر الذي كان من أهم أداوتهم في مجالهم التأثيري الذي مكّنتهم منه الحكومات الأردنية. للإخوان تحالفان أساسيان نسجتهما الحركة الإسلامية في الأردن والعلاقة معهما تدخل باب النهايات القصوى، الأول مع العشائر والثاني مع النظام السياسي الذي ميّز الحركة بغض الطرف عنها في زمن كانت فيه جلّ الأحزاب ممنوعة، وهو يجد الحركة تخذله في إحلال الإصلاح والديمقراطية، والحركة التي ترى أن الدولة لا تريدها تتذرع بشعار "المشاركة وليس المغالبة بالحكم"، في حين سلوكها الباطن يفيد بأنها تزأر لتحل محل النظام بتعاون مع أي طرف ولو كان الشيطان الأكبر أو إيران، وعبر تبني الحراك الشبابي الجديد من جيل الفيسبوك ومساعدته في قدراته التنظيمية، وتخطط الحركة وقوى خارجية لتسفير مجموعة من الشباب لدول أوروبية لممارسة الضغط على الأردن، على غرار النسخة المصرية والتونسية.
في التحالف الأول وهو العشائر، والتي يبدو جليا أنها لا تروق لرموز متشددة في الحركة الإسلامية من تيار حماس، جرّ ذلك الموقف خسارة كبيرة للحركة؛ إذ يلقى رموز التشدد بها نبذا يرقى لحد الكره من قبل الناس في القرى والمخيمات والمدن والسبب؛ لأنهم يريدون الاستقواء على الملك والدولة وأحيانا بدعم خارجي.