الكراهية.. المعالجة تحتم النظر في أسبابها
بما أن الكراهية صفة مذمومة وخلق سيئ وحالة نفسية ممجوجة وقبيحة, فكل إنسان وكل طرف وكل مجموعة أو فئة تريد أن تنزه نفسها عن هذه الصفة وهذا الخلق السيئ إما بدفع هذه التهمة عن نفسها بالمحاججة أو باتهام الآخرين بها, وما أكثر ما يلجأ الناس إلى الثانية لأن فيها يتحقق الأمران معا, فهو يدفعها عن نفسه ويلصقها بالآخرين ومن ثم يبرر لنفسه كراهية هؤلاء الآخرين, فكراهيته هو محمودة ومفهومة ومقبولة وكراهية الآخرين مذمومة ومرفوضة. بل هناك من يذهب بعيدا ويسمح لنفسه بأن يلصق تهمة الكراهية بمجموعة أو فئة معينة وينزه فئة أخرى عنها وهو قد لا يعلم أن الكراهية حفرة قد يسقط فيها الإنسان, أي إنسان, أو المجموعة عندما تنحرف بهم نفوسهم وأهواؤهم عن جادة الحق والإنسانية. فما يحفظ الإنسان من السقوط في الكراهية هو التمسك بالحق والالتزام بالروح الإنسانية المتمثلة في كل القيم الأخلاقية السامية من حب ورحمة وصدق واحترام للآخر. الكراهية لا دين لها ولا مذهب تنتسب إليه, ومن الخطأ أن نسعى إلى تأصيل الكراهية في عقائد الناس لأن في هذا سقوطا في المزيد من الكراهية التي لا ينجو من شرورها أحد. فمثلا, نحن المسلمين بكل طوائفنا ومذاهبنا متهمون ظلما بأن ديننا وتعاليمنا الإسلامية هي من يؤسس للعنف في نفوسنا, وأن هذه التعاليم ــ في نظرهم ــ هي من توفر القواعد النفسية والأخلاقية لنشوء الظلم والاستبداد في المجتمع, وقولهم هذا يعني أن العنف والاستبداد متأصل في تعاليم ديننا. وانطلاقا من هذه الرؤية نراهم يدعوننا إلى التخلي عن ديننا للاندماج في حضارتهم والالتحاق بركبهم, ألم يحاكموا قرآننا الكريم ويحرقوه في العلن استنادا إلى هذه الحجة الواهية؟! لكن في المقابل هناك من العقلاء منهم من يرفضون هذا المنطق لأنهم يعلمون علم اليقين أن الإسلام دين الرحمة ودين الأخلاق العالية ودين تحرير الإنسان من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق, وأما مظاهر العنف التي تستدرج إليها بعض المجتمعات الإسلامية هنا وهناك فهي حالة طارئة وظاهرة مرضية أنتجها الوضع السيئ والمتردي للمسلمين, فماذا نتوقع أن ينتج لنا واقع متخلف ومرير يتخبط فيه المسلمون منذ قرون عديدة غير مثل هذه الظواهر المرضية, التي تعبر عن الإحباط والشعور بالدونية أمام الآخرين وغياب بارقة أمل للخروج من هذا الواقع المأزوم, فالكراهية حالها حال الأمراض الاجتماعية الأخرى, فالمجتمع المريض بالتخلف في جميع جوانبه والمبتلى بالتفكك الاجتماعي ينتج لنفسه ثقافة مريضة, والكراهية واحدة من إفرازات هذه الثقافة, وهذا الحال ينطبق على المجتمع المتدين, وإن كان البعض يخاف ويحذر من كراهية المتدينين, لأنها كراهية مقدسة يمارسها أصحابها باسم الله وباسم السماء فيعطون لأنفسهم الحق بتجاوز كل الحدود المتعارف عليها إنسانيا. فلو أردنا أن نستعرض حجم ثقافة الكراهية التي كانت تعيشها كل المذاهب والطوائف في العصور السابقة على الرغم من ضيق المختلف فيه وسعة المتفق عليه، لخشيت على القارئ أن يحثو على رأسه التراب من هول هذه الكراهية وويلاتها. لكن علينا ألا نستخدم هذا التاريخ المملوء بالكراهية لترسيخ الانقسام المذهبي والطائفي, الذي لو بحثنا فيه بعمق لعلمنا براءة هذه المذاهب من فتنة هذه الكراهية كبراءة الذئب من دم النبي يوسف ـــ على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام. المذاهب ابتدأت بشكل طبيعي وكاستجابة لما في الإسلام من سعة فقهية وفكرية, لكن هناك من أراد أن يوظف هذا الاختلاف المذهبي لتحقيق مآرب أخرى, وكان لا بد من شحن هذا الاختلاف المذهبي بجرعات من الكراهية والحقد ليسهل عليهم الوصول إلى مآربهم, فقاعدة فرق تسد قاعدة شيطانية قبل أن تكون قاعدة استعمارية, وكل فرقة وانقسام وتشرذم لا بد أن تسبقها كراهية, وكلما اشتدت هذه الكراهية اشتد الانقسام, وكان ذلك لمصلحة من يريد أن يستبد بهذا المجتمع.
علينا, وبالأخص ممن يحملون راية تنوير المجتمع وتوعيته, ألا نستدرج إلى الأخذ بالمسلمات المتوارثة اجتماعيا ومن ثم نجعلها حكما وحاكما على رؤيتنا وتصنيفنا للناس, فعلى المثقف أن يعيد الأمور والظواهر إلى بداياتها ونشأتها الأولية ليكتشف الأسباب الحقيقية من ورائها, وعند ذلك تبتدئ المعالجة الصحيحة والمثمرة ونتخلص من ثقافة الأحكام المسبوقة وتسجيل النقاط على الخصم. فمثلا, نحن نعلم أن أهل اليونان في القديم كانوا يعبدون آلهة متعددة, فهم مشركون في نظرنا, لكن كم تعجبت عندما علمت أن السبب وراء هذا الشرك هو الرغبة في التخلص من ظلم واستبداد وانفراد جبابرتهم, فلقد أراد كهنة اليونان السابقون بعقيدة تعدد الآلهة أن يقنعوا ملوكهم وجبابرتهم بالتخلي عن التفرد والتسلطن في حكمهم, فما كان يريدون إيصاله لهم بأن الأرض يجب أن تحكم كما تحكم السماء, فكما أنه هناك آلهة متعددة يجب أن يكون هنا حكم رشيد ومشاركة في الحكم وإدارة المجتمع. صحيح أن هذه العقيدة الشركية خلفت وراءها الكثير من المضار والمفاسد, لكن معرفة أسبابها وتتبع مصادر نشأتها تبعد الإنسان عن الوقوع في الكراهية, وتكشف له في المقابل كم هناك من الأمور السيئة التي قد تنتجها الظروف السيئة والمنحطة التي يمر بها المجتمع في ظرف معين من الزمن, فربما لولا الاستبداد والظلم والانفراد بالسلطة لما وقع هناك شرك في اليونان. المهم أن نهتم بتجفيف منابع الكراهية ونخنق أسبابها بدلا من أن ننشغل بتوجيه تهمة الكراهية لبعضنا, فالاختلاف سنة إلهية في هذه الحياة الدنيا, لكن الكراهية لا ينتجها الاختلاف, إنما تنتجها النفوس المريضة, فإذا داوينا نفوسنا المريضة بقينا مختلفين ولكن متحابين وغير ذلك سنبقى مختلفين ومتأخرين ومنحطين أخلاقيا بسبب كراهيتنا لبعضنا.
لا يمكننا أن نتتبع كل الأسباب المؤدية إلى الكراهية, لكن هناك أسبابا رئيسية لا يمكن تجاوزها في أي حديث أو تحليل عن نشوء وانتشار الكراهية في أي مجتمع، ومن هذه الأسباب:
1- المسلمات الفكرية والاجتماعية: لعل أشد ما يجب الحذر منه هو الوقوع في المسلمات الخاطئة, فمع الأسف, هناك الكثير من المسلمات التي قد نؤمن بها على أنها حقائق, ومن ثم تشكل لنا هذه المسلمات مرجعيات ثقافية وفكرية لصياغة رؤيتنا للأشياء والحكم على الآخرين. والكثير من هذه المسلمات هي المسؤولة وبشكل مباشر عن تحديد مشاعرنا تجاه الآخرين, فنحب أناسا ونكره آخرين لا لسبب واضح إلا لأننا نعتقد بالتوارث أن هذه الفئة أو تلك المجموعة فئة منحرفة أو معادية أو مبتدعة. والطريق لمعالجة الكراهية هو محاكمة هذه المسلمات بوضعها على طاولة النقد والمناقشة والتحليل, وعندها سنكتشف كم من مسلمة ابتدعها عدو للطرفين كان يريد بها أن يحقق مصالح خاصة به فصدقها السابقون وورثناها ــ مع الأسف ـــ نحن اللاحقون.
2- الذاكرة التاريخية: صحيح أن الإنسان لا يستطيع أن ينفك عن تاريخه, لكن المشكلة هي في علاقة الإنسان بهذا التاريخ, فهناك من يذهب إلى مدرسة التاريخ ليأخذ من دروسه وعبره ليستعين بها على تطوير الحاضر وتحسين الواقع, وهناك مع الأسف من يذهب إلى التاريخ ليأخذ منه ما يهدد ويفجر الحاضر ويلغي المستقبل ويبقي الماضي بأمراضه وعلاته يعيش في النفوس. فأكثر ما عندنا من كراهية هي كراهية مستوردة من الماضي وهي ليست وليدة الحاضر. ومع الأسف حتى هذه الكراهية التي استوردناها من الماضي هي كراهية مضخمة ومتورمة لأن أكثر من كتب التاريخ كتبه تحت إمرة سلطان جائر كان همه الأول والأخير تكريس الكراهية في نفوس الناس, وما أسهل على الظلم أن يقوم بنيانه على نفوس مغلولة بسلاسل الكراهية.
3- الخطاب الثقافي الذي يكرس التمزق والتفرق والتخندق: لا توجد هناك معضلة اجتماعية إلا وراءها ثقافة مختلة, فالثقافة عندها من القوة ما يمكنها أن تختطف حتى الدين على عظمته ووضوح تعاليمه لتنحرف به عن مساره الصحيح, فهناك الكثير من علماء الدين ممن يحذروننا, وهم بذلك ينبهوننا إلى مشكل ثقافي, بأن المجتمع الذي يتنطع في الدين, أي يتشدد فيه, مجتمع معرض لأن يخسر دينه ويختل نظام دنياه, والتنطع في الدين سببه ثقافة ذلك المجتمع وليس الدين نفسه. ومن المشكلات الثقافية التي تنتج الكراهية تشكيل صورة الأنا بأزهى ما يكون عليه من نقاء وصفاء واستقامة وعدالة وبراءة, واعتبار هذا الأنا الفرد أو الجماعة هو من تنسب له كل الفضائل والمنجزات ولغيره كل الفتن والمشكلات والعيوب, فهذا الآخر تظهره هذه الثقافة على أنه أحمق جاهل منحرف مبتدع ضال مشرك وحتى كافر, فكيف يشعر هذا الإنسان بشيء من الإحراج والضيق من كراهية هذا الآخر ما دام هذا الآخر خارجا بفضل ثقافته غير المتسامحة عن الإطار الذي يمكن أن يحفظ له كرامته وحرمته؟! فعلينا أن نستعيد للآخر كرامته ونحفظ له حقوقه ولا نسمح لأنفسنا بالتعدي عليه فكريا ونفسيا وثقافيا وعندها تصبح نفوسنا مؤهلة حقا للمحبة وعدم الوقوع في الكراهية.
4- الاستبداد الديني: نحن قلنا إن الكراهية الدينية أشد أنواع الكراهية فتكا وقسوة, وإذا كان الاستبداد بالمطلق بطبيعته ينتج الكراهية في المجتمع ويمدها بعوامل البقاء والاستمرار, فهناك الكثير من العلماء ممن يعتبر الاستبداد الديني أشد خطورة من الاستبداد السياسي, لأن هذا النوع من الاستبداد يستعبد النفوس ولا يستطيع الإنسان أن يحقق لنفسه الرقي والتطور إلا عندما يحرر نفسه من هذا الاستعباد. ومن هذا المنطلق لعب الكثير من علماء الدين في الماضي والحاضر ومن مختلف المذاهب والطوائف دورا مقيتا في تكريس الكراهية في نفوسنا, فالاستبداد السياسي يستعين بالاستبداد الديني لتفريق المجتمع إلى مذاهب ومجموعات متعادية يكره بعضها بعضا, وعندها ينهار ذلك المجتمع ويسهل انقياده واستعباده.
أخيرا, المسلم أولى من غيره بعدم الوقوع في الكراهية, والمجتمع المسلم يفترض به أن يكون أقدر من غيره على دفع مرض الكراهية عنه, فقرآننا الكريم ينطق وبكل وضوح بأن كل الناس سواسية عند الله في المكرمة, "ولقد كرمنا بني آدم", الإسراء الآية 70, ومن ثم جعل لهذه الكرامة درجات وربطها بالتقوى, "إن أكرمكم عند الله اتقاكم", الحجرات 13, والتقوى ليس المقصود بها كثرة العبادة, بل هي من الاتقاء والابتعاد عن رذائل الأعمال .. وهل هناك رذيلة أشد وأقبح من الكراهية؟ فالمطلوب من المجتمع المسلم أن يعيش المحبة وأن يكون أنموذجا للمجتمعات الأخرى في هذا المجال لا أن يكون العكس.