معضلة الإصلاح العربي هل تحلها العقلانية؟

خصت مجلة "دوتشي لاند" الألمانية عددها الأول لعام 2011 للحديث عن أحداث ثورتي تونس ومصر، إذ تضمنت افتتاحية العدد متابعة الحراك العربي الشعبي المطالب بالإصلاح، مبرزة أثر الثورات الشعبية والاحتجاجات الجماهيرية في كل من تونس ومصر، والذي أخذت حيزا كبيرا ضمن قائمة الموضوعات الرئيسة في نشرات الأخبار الألمانية.
الألمان وغيرهم من الغرب مهتمون بما يجري عربيا؛ إذ أعدوا برامج خاصة لما يجري في مصر واليمن وتونس وسورية والأردن، وجرى نقل حي عن طريق الإنترنت، ونشرت تحقيقات ملأت الصحف والمجلات حول المظاهرات العارمة في شوارع تونس، وميدان التحرير في القاهرة.
"دوتشي لاند" في افتتاحيتها ترى أن انطلاق تونس ومصر على طريق الديمقراطية حرك في الأسابيع الأولى من العام 2011 الكثير من الألمان، وأثار الحوار السياسي في ألمانيا التي تولي قدرا كبيرا لنداء حشود الشباب في المنطقة العربية نحو الديمقراطية والتغيير السياسي وتطلعاتها إلى مستقبل مهني أفضل.
الملاحظة الألمانية الأولى على ما جرى عربيا، هي أن الانتفاضة السلمية صدرت إلى حد كبير من أوساط الطبقات الوسطى في المجتمع؛ وهو ما جعل نداء الحرية بات مسموعا في كل المنطقة العربية وترى ألمانيا أن الأبواب باتت نحو بناء أسس ديمقراطية في البلدين مفتوحة على مصراعيها الآن.
والسؤال: كيف بدأ الإصلاح الحقيقي في الغرب، ليصار اليوم إلى اعتبار أن ما يجري عربيا في طريق الديمقراطية المبتغاة من قبل الغرب لشعوب العرب؟.. من المهم هنا التوقف عند الحالة الفرنسية؛ ففرنسا النابليونية كانت في بداية القرن الـ 19، تمثل المثل الإيجابي للغرب المتحرر، وكانت أوروبا الأرستقراطية تمثل المثل السلبي. وآنذاك شكلت المقارنة بين السلبي والإيجابي أساس بلورة الفكر السياسي الحديث؛ لأنها مقارنة بين الحداثة والتقليد، بين الديمقراطية والاستبداد، وبين الحرية والعبودية.
من جانبه، ولج الألماني ماكس فيبر (1860 - 1920) أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث ودراسة الإدارة العامة في مؤسسات الدولة، وهو من أتى بتعريف البيروقراطية، لتحليل إمكانات الإصلاح من هذه المقارنة، فعبرها تمكن فيبر من الوصول إلى مفهوم الدولة الحديثة التي يرى أن مظاهر الحداثة تتجلى فيها بأربعة ميادين: الجيش، والإدارة، والاقتصاد، والتعليم. ولأن الكلام لا يحتمل التفصيل في هذه العجالة عند كل مجال، إلا أنه بالإمكان الوقوف عند رؤيته لإصلاح الجيش؛ إذ تتمثل مظاهر الحداثة في الجيش في كونه جيش وطني شعبي؛ لأن الدولة الحديثة وضعت حدا للجندي المحترف والمرتزق.
ولنتذكر هنا كيف حذر ميكيافيللي من مخاطر الارتزاق والاحتراف في كتاب الأمير. ففي الجيش الحديث تحل الديمقراطية محل الطاعة العمياء، وتتم الترقية على أساس الكفاءة، لا على أساس الاعتبارات المجانية. وبانتشار العقلانية في الجيش، فسر الجنرال الألماني الأسطورة كارل فيليب كلاوزوفيتش في أوائل القرن الـ 19 انتصار نابليون على الجيوش التقليدية الأوروبية، بإدخال العقلانية للجيش، وكلاوزوفيتش هو صاحب المقولة الشهيرة "الحرب استمرار للسياسات بوسائل أخرى".
في جانب الإدارة يتوقف تحديث الإدارة عند فيبر على إصلاح إداري يقوم به جيش مدني هو البيروقراطية. وهذا ما دفع نابليون إلى تكوين بيروقراطية مؤهلة للقيام بتطبيق القوانين الجديدة. يقول ماكس فيبر: "إن مفهوم البيروقراطية يتفرع عن مفهوم الانضباط.. وتفوق البيروقراطية في مجال الإدارة كتفوق الآلة على العمل اليدوي".
يتحكم العقل في الإدارة لأن وظيفة البيروقراطية تطبيق العقلانية، وهكذا يتحكم التجريد والتعميم في تطبيق القانون؛ لأن العقل الفيبري لا يتجاوز حدود الإعقاب، أي عقل يهتم بالكم لا بالكيف؛ إذ إنه مجرد وسيلة، وليس غاية كالعقل الهيجلي، وقد سبق أن قلنا إن الوضعانية لا تهتم إلا بالوصف، ولا تهتم بالغايات والماهيات.
دخول العقلانية لا يكفي عند فيبر للجيش والإدارة فقط، بل يرى أنها ضرورة للاقتصاد أيضا، إذ يؤدي انتشار العقلانية في الجيش والإدارة إلى عقلنة الاقتصاد. ومن مظاهر هذه العقلنة، رفع الإنتاج على حساب الاستهلاك، وتحرير المنتجين من القيود المفروضة عليهم، والقضاء على المؤسسات الاقتصادية العتيقة، كالجمعيات المهنية وغيرها. ولكي تكون العقلانية شاملة في الاقتصاد والإدارة والجيش يلزم تحديث التعليم وعقلنته.
في التعليم يرى فيبر في النموذج النابليوني خلاصا نهائيا لحال التعليم المرتهن لسلطة الكنيسة، فنابليون وضع حدا لتبعية التعليم للكنيسة؛ إذ وحد لغة التلقين، كما اتجه إلى التكوين العلمي والتقني. وطبّق برنامج الموسوعيين في مجال التعليم، ومنذ ذاك الزمن تعمق العقل في التعليم وأعيد الاعتبار للأكاديمية الفرنسية، التي أسسها الكاردينال ريشيليو، وهو رجل دولة فرنسي عام 1635، في عهد لويس الثالث عشر، لكنها أُغلقت عام 1793 خلال الثورة الفرنسية. ولما جاء نابليون الأول اعترف بها عام 1803 فأصبحت جزءا من معهد فرنسا وهو مجموعة من الجمعيات العلمية التي تساندها الحكومة.
تتكون الأكاديمية من 40 عضوا. منذ تأسيسها فاق عدد الأشخاص الذين دخلوا عضويتها السبعمائة وهم من جميع المهن. فمنهم الكاتب والشاعر والطبيب والعالم، كما يوجد شخصيات عسكرية وفلسفية وغيرهم. حدثت حالات طرد قليلة؛ إذ طُرِد عدد من الأعضاء بعد الحرب العالمية الثانية؛ وذلك لكونهم اتهموا بالعمالة مع العدو الألماني. لا يحق لأعضاء الأكاديمية الاستقالة من منصبهم.
خلاصة التجربة الفرنسية تكمن في عقلنة التعليم والاقتصاد والجيش والإدارة، فمن خلالها يصبح الكل بنية متسقة تحكمها العلاقات العقلانية، أي دولة حديثة يسودها العقل: "الدولة الحديثة بصفة عامة هي مجموع أدوات العقلنة في كل دروب الحياة".
بهذه الصيغة يتميز النموذج الفيبري للدولة الحديثة بمزايا التوحيد، والتجريد، والنظام، والفعالية. وكل هذه المزايا تجد تلخيصها في العقلانية كمبدأ إيجابي. وفي مقابل هذه المزايا نجد الدولة التقليدية تقوم على خصائص: التعدد، والتجريبية، والعادات، والمجانية. وكلها خصائص تدل على غياب العقلانية وسيادة التقليد كمبدأ سلبي. ولكل ميزة من النموذج الحديث الإيجابي، ما يقابلها من النموذج التقليدي السلبي. هكذا وصل ماكس فيبر إلى تحديد نموذج الدولة الحديثة.
بهذه الصيغة "الفيبرية" يعود السؤال بالصيغة التالية: لماذا لم تظهر الدولة العقلانية الحديثة إلا في الغرب؟ ولم تظهر في المشرق العربي الذي يتمتع بتراث قديم في مجال السلطانات والدول الإسلامية.
هنا يشار إلى أن فيبر لا ينكر صفة العقلانية عن التجارب القديمة، إلاّ أن وجودها كان جزئيا، بمعنى أنه كان يقتصر على ميدان من دون الآخر. إنه وجود غير شامل لجميع مظاهر الحياة، كما أن العقلنة في الحضارات القديمة كانت عارضة تزول بزوال طموح الإمبراطور، أي أنها كانت مرتبطة بالطموح الفردي، بعكس العقلنة في الحضارة الغربية، فإنها من الثوابت في التاريخ الغربي. وبذلك تتميز الحضارة الغربية بعقلانيتها الشاملة والثابتة" التي لا تحدي عنها؛ لأنها تحدد الأهداف الجزئية وتشكل المنطق الباطني لكل سلوك وتفكير، وهذا ما يميزها من عقلانية الحضارات الأخرى.
صحيح أن معركة الإصلاح العربي تكمن اليوم في إحلال العقلانية محل الروح الفردية والجهوية والاستبداد، لكن إعجاب الغرب يجب ألا يقوده إلى الاستثمار بما يجري ليبيض صورته في الشارع العربي، فأحد أهم تجليات المشهد الراهن هو أن إحلال الديمقراطية بنعومة كون صورة سلبية عن التدخل الغربي في حياة المواطن العربي.
نتذكر هنا أن جي كارني الناطق باسم الخارجية الأمريكية تحدث بعد أحداث مصر ومن البيت الأبيض عن استراتيجيات ما بعد الحراك الجماهيري العربي، في مرحلة لاقتناص اللحظة التاريخية التي لعبت على حبالها السياسية الخارجية الأمريكية مطولا، منذ اقتناصها ذات اللحظة بعد سقوط جدار برلين فحرب الخليج فأحداث أيلول فاحتلال العراق فقصف غزة، وتنامي سياسات الهيمنة التي أدركتها الجماهير العربية، فاستدركت وعيها لتسقطها في مواجهة حالات الفوضى والدمار التي عاشتها المنطقة العربية برمتها، وهي فوضى مختومة بدمغة غربية؛ لذا على الغرب أن يعرف أن ما يجري هو رد فعل ذاتي عربي، وأن الزمن بات مختلفا عما مضى.
أخيرا، المهم اليوم أننا نريد إصلاحا عربيا من الداخل، لا يخضع لضغوط غربية ولا لقرارات مجلس الأمن، علينا فقط كعرب أن نستوعب الدرس وأن نفخر بأن الأمة حية، وأن العدالة والحق في العيش الكريم ومحاربة الفساد هي على رأس كل الأولويات، التي تحتاج إلى رفع نصاب العقل والعقلانية في المجتمع والدولة العربية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي