الزواج والأسرة: الزواج قد يكشف عن أمراضنا النفسية (2 من 2)

مرة أخرى يوجه اللوم إلى ثقافتنا على ما نعانيه من ضعف في وعينا الاجتماعي بقضية الأمراض النفسية، فأغلبنا يفهم المرض النفسي على أنه ضرب من الجنون، ومن هذا المنطلق فإن مجرد الظن بأننا مصابون بمشكلة نفسية أو مرض نفسي تجد منا رفضا تاما وإنكارا بالجملة؛ لأن مثل هذا الادعاء ستترتب عليه نظرة دونية من الأهل والمجتمع. هذا الوهم الثقافي يجعلنا نغفل عما قد نصاب به من أمراض نفسية قد تكون بسيطة في بداياتها وسهلة العلاج في أولى مراحل ظهورها، لكن إهمالنا لها وتمادينا في عدم الإقرار بها يحولها إلى أمراض خطرة ومزمنة، نظل نعانيها طوال حياتنا من دون أن نبوح عنها.
الحقيقة أن النفس تمرض كما يمرض البدن، ومن هذه الأمراض ما هو مخفٍ، ومنها ما هو معلن، لكن كليهما يؤثران في سلوك الإنسان ولهما تأثير كبير في كيفية بناء علاقته مع الآخرين، وبناء الأسرة واستمرارها أكثر ما يتأثر بهذه الأمراض النفسية. الكثير من الأمراض النفسية التي يعانيها الإنسان لا تكشف عن نفسها ولا تظهر أعراضها إلا بعد الزواج، فخصوصية العلاقة الزوجية وطبيعتها تفرض على الإنسان أن يعيش كما هو بما عنده من أمراض وبما يحمل معه من عقد نفسية، في الزواج تظهر مكامن القوة في شخصية الإنسان، كما تظهر مكامن الضعف عنده. وعلى هذا الأساس تأتي أهمية معرفة الإنسان بنفسه وأن يكون عنده قدر من الثقافة النفسية، فالقاعدة العلمية تقول إن معرفة الإنسان بالشيء يجعله أكثر قدرة على التعامل معه والتحكم فيه، وإذا عرفنا أنفسنا، وعرفنا كيف لهذه النفس أن تصنع المشاعر، وكيف لها أن تنتج العواطف والأحاسيس أصبحنا أكثر دراية بكيفية توظيف أنفسنا لبناء علاقات أفضل وأكثر استقرار وتفاهما مع الآخرين، فالجاهل عدو نفسه، وكيف يكون من هو عدو لنفسه ألا يكون عدوا أو محاربا أو مستسلما أو خاضعا لغيره؟!
وإذا كان المرض عموما يعرف من خلال أعراضه، فإن الأعراض في العادة تتمظهر على شكل أوجاع أو آلام يعانيها الإنسان المريض، هذا الأمر يحتم علينا ألا نكتفي بمعالجة الأعراض، بل المطلوب أن نتتبع هذه الأعراض من أجل الوصول إلى المرض المسبب لكل هذه الأعراض. غياب الشعور بالأمان عند الزوجة يحولها إلى إنسانة مريضة ومتوترة ومتقلبة المزاج، فلعل أول أعراض مرض الشعور بعدم الأمان هو الوقوع في الغيرة، فالمرأة تعلم أن في غيرتها استفزازا للرجل؛ لأن الرجل قد يفهم هذه الغيرة على أنها اتهام له في أخلاقه، ويبقى الرجل يؤكد لزوجته المرة تلو الأخرى أن ظنونها في غير محلها، لكن في أكثر الأحيان لا ينفع هذا التكرار في حل المشكلة؛ لأنه علاج ومسكن للأعراض وليس علاجا لأصل المرض، ومن هنا تتفاقم المشكلة وقد تنتهي إلى إهمال الرجل زوجته، بينما التوجه إلى أصل المشكلة والمحاولة والتركيز على إشاعة الاطمئنان في نفس الزوجة هو العلاج المضمون في تخليص المرأة من غيرتها من غير أن تحس بأنها متهمة في عدم ثقتها بزوجها.
كما أننا لا نتوقع من الإنسان المريض في بدنه أن يقوم بالأعمال نفسها التي يقوم بها الإنسان المعافى والصحيح، فعلينا أيضا ألا نتوقع من المريض نفسيا ألا يظهر بعض السلوكيات غير الطبيعية، فليس كل سلوك غير طبيعي يعبر عن انحراف في الأخلاق، أو هو مظهر لشخصية غير مستوية، بل يمكن القول إن ما يقوم به هذا الشخص المريض نفسيا هو الطبيعي بسبب مرضه وغير ذلك هو الأمر غير الطبيعي. المرض هو مرض، إذا أصاب البدن أو إذا أصاب النفس، لا بد من أن تكون هناك أعراض، وهذه الأعراض إن لم تكن كلها فبعضها بالتأكيد سيؤثر في شخصية الإنسان، والمأمول أن يكون هذا المرض وقتيا، ومن الممكن علاجه حتى يمكن لهذا الإنسان أن يعيد التوازن لنفسه ويعيش حياته بطريقة إيجابية في إطار نفسه وفي إطار أسرته والمجتمع.
هناك الكثير من الأمراض والمشكلات النفسية التي يصاب بها الإنسان إما بسبب أخطاء تربوية، وبالأخص ما يحدث منها في الطفولة، وإما أنها أمراض نفسية انتقلت إليه بالوراثة الثقافية، فمقابل الجينات المسؤولة عما ينقل لجسد الإنسان من صفات خلقية وأمراض وراثية جسدية هناك للثقافة جيناتها الخاصة بها، وهي المسؤولة عن نقل كل ما في ثقافة المجتمع من قيم وأخلاق وخصال ثقافية مرضية، فالتربية والثقافة يجتمعان معا لتشكيل شخصية الإنسان، لكن من غير أن يلغي ذلك دور الإنسان في تشكيل نفسه حتى ولو خذلته التربية والنشأة ووقفت ضده ثقافة المجتمع. وللاختصار سنناقش ثلاثة من هذه الأمراض النفسية التي لها دور كبير في إنجاح علاقة الإنسان بزوجته وأسرته، مع إشارة بسيطة وعابرة إلى الأسباب المحتملة وراء الإصابة بهذه الأمراض.
1- العجز العاطفي: يعتقد الناس في الغالب أنه كي ينجح الزواج فلا بد من توافق في الجانبين المادي والفسيولوجي، وكأن علاقة الزوج بزوجته علاقة مادية فسيولوجية فقط، وعلاقة كهذه قد تستمر إلى الأبد، لكنها علاقة زوجية ميتة، وإن كانت محنطة من أجل أن يحافظ على شكلها ومظهرها الخارجي. فالجانب العاطفي له أهميته الخاصة في تجميع وحفظ كل العوامل الأخرى ذات العلاقة بالزواج وسد ما فيها من نقص أو تنافر ومن ثم توجيهها وتوظيفها لتحقيق السعادة والشعور بالرضا بين الطرفين. هناك رجال عندهم فعلا عجز عاطفي ملحوظ وواضح، وهؤلاء في حاجة إلى المساعدة إما قبل الزواج أو بعد الزواج لإزالة الموانع التي تعوقهم من تحريك عواطفهم ومشاعرهم. ليس هناك إنسان من دون عاطفة، لكن العاطفة طاقة، وقد يكون هناك عجز مرضي في إنتاج هذه الطاقة، وبالتالي يكون حظ هذا الإنسان من هذه الطاقة إما قليلا وإما معدوما بالمرة. والمرأة في حاجة إلى قدر من العاطفة يتناسب مع طبيعتها كأنثى، وعندما يفشل الزوج في تأمين حاجتها من العاطفة تبدأ المعاناة والمشكلات في الظهور وقد ينتهي بها الأمر إلى تعطيل قدرتها هي نفسها على استقبال وتلقي العواطف من الآخرين، ما يعقد وضعها العاطفي ويجعلها هي الأخرى عاجزة عن بناء علاقات عاطفية مع الآخرين، وربما أكثر من يتضرر من هذا الأمر هم أطفالها. أما الأسباب فهي متعددة، فالإنسان الذي لم يشبع عاطفيا في طفولته قد يكون ذلك هو السبب في إصابته بالعجز والمرض في جانبه العاطفي. التربية هي كلها حب ومحبة، العقوبة يجب أن تكون في قالب من الحب، الأمر والنهي والتوجيه والنصيحة كلها يجب أن تكون بالحب، حتى التعليم والتدريب يجب أن يكون بالحب، فالتربية محاولة لمساعدة الإنسان على صياغة نفسه بالشكل الإيجابي، وبالأخص في طفولته ومراحل عمره الأولى، لكن هذه التربية لا تفعل فعلها من غير أن تكون بالحب. فالإنسان في حاجة إلى أن تمتلئ أوعيته النفسية بالحب، والعجز والمرض العاطفي هو أن يكبر هذا الإنسان وهو ليس عنده من العاطفة إلا القليل، فكيف عندئذ أن نطلب العاطفة ممن هو لا يملكها في الأصل؟
2- مرض الشعور بالدونية: هناك غريزة عند الإنسان مهمة ومؤثرة في حياته وهي غريزة حب الاحترام، فالإنسان يحب وهذا مغروز في نفسه أن يحترم من الآخرين وأن يحس بتقديرهم له، والمشكلة هي أن يكبر هذا الإنسان وعنده إحساس بعدم الاحترام، فهذا الشعور بالدونية عندما يكبر إلى حد المرض يجعله إنسانا غير مستقر في مشاعره؛ لأنه يعيش تحت ضغط حاجة الجوع إلى الاحترام. الزوج المريض بالدونية يفسر كل شيء من حوله، وبالأخص ما تقوم به زوجته، على أنه عدم احترام له، فيسمع من الكلام ما يوحي له بعدم الاحترام وينظر إلى الأخطاء غير المقصودة على أنها كانت متعمدة فقط لإظهار عدم الاحترام له. لا بل ربما يصل به الحال إلى أن يثأر لنفسه ويبدأ بإهانة زوجته والتعمد في إظهار عدم احترامه لها قبل أن تفعل أي شيء فقط؛ لأنه يظن أنها هي لا تحترمه، أو يفعل ذلك انتقاما لأمور سابقة رأى فيها عدم الاحترام. إظهار الاحترام للطفل والشاب في البيت والمدرسة والمجتمع يحميه من أن يكبر وعنده إحساس بالدونية وعدم الاحترام، فالزوج الذي يشعر في داخله بأنه محترم لا يعيش ذلك القلق الذي يجعله ينتظر من الناس أن يقنعوه بأنه محترم ومقدر عندهم، وأقرب هؤلاء الناس هي الزوجة، فمن تعيش مع زوج يعاني هذا المرض ستعتقد أنه إنسان مغرور ومتكبر وقاس يتعمد إذلالها وإهانتها كرها لها وهي لا تدري أن كل هذه الإهانات ربما ما هي إلا صرخات من الألم يعانيها هذا الزوج، فلسان حاله يقول احترموني يا ناس، احترميني يا زوجتي؛ فأنا أحس وأشعر بإهاناتكم لي حتى ولو لم تنطقوا بكلمة واحدة.
3- ضمور وعجز في عضلات التعبير عن النفس: الأحاسيس والمشاعر قد تكون موجودة في النفس، لكن قد لا يحس بها، ربما حتى صاحبها فضلا عن الآخرين، وعجز كهذا في التعبير عن العواطف يدمر العلاقة الزوجية، فالزوجة تريد أن تحس وتتلمس بما يحس ويشعر به زوجها حتى إن كانت هي مطمئنة لحبه لها. فهذا الشعور وهذه العاطفة الإيجابية الموجودة في نفس الرجل هي بمنزلة طاقة إن لم تتحرك وتنتقل بين القطبين، وهما الزوجان، فإنها تكون طاقة معطلة وغير نافعة؛ لأن أبسط دور يرتجى لطاقة المحبة والعواطف هو الشعور بالرضا والاقتراب النفسي ولا يحدث هذا إلا عندما تتحرك العواطف من مكانها ويشعر بها الطرف الآخر من خلال التعبير عنها. فما تحتاج إليه المرأة أولا محبة زوجها، لكن ما تحتاج إليه أيضا هو التعبير لها عن هذه المحبة، وعلى الرجل أن يعبر عن هذه المحبة بطرق مختلفة، وهذه هي المودة التي أوصانا الله بها كزوجين متحابين. فما يخرب العلاقة الزوجية في الكثير من الأحيان ليس عدم وجود محبة من قبل الزوج لزوجته، إنما يعود الفشل إلى عدم وجود المودة الكافية بين الطرفين. وعدم قدرة الرجل على أن يود زوجته قد يكون السبب وراءه وجود عجز نفسي عنده؛ فالتعبير عن مشاعره ومحبته لزوجته في حاجة إلى مهارات نفسية، وعدم وجود هذه المهارات قد يصل به إلى حد الإعاقة والعجز الكامل، وعندها يتطلب الأمر تدخلا علاجيا نفسيا يتعلم هذا الإنسان من خلاله كيف يظهر محبته لها، فالحب وحده لا يكفي إن لم يحس به الطرف الآخر.
أخيرا، صحيح أن هناك تطورا في وعي الناس بخصوص التأكد من كفاءة الطرفين لإيجاد علاقة زواج ناجحة، فالناس ربما بدأت تدرك أن أحد الأطراف قد يحمل مرضا وراثيا، وربما هو نفسه لا يدري بالأمر، لكن وجود هذا المرض ستكون له عواقب سلبية بعد الزواج، ما يستدعي أن تكون هناك فحوص محددة قبل الزواج، وربما لن يكون الوقت بعيدا لأن تكون هناك أيضا فحوص نفسية قبل الزواج؛ للتأكد أيضا من سلامة نفوسنا قبل أن ندخل في هذا الرباط المقدس.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي