طهران صديق تجاري لتل أبيب.. والعرب عدونا المشترك
ليس سرا أن دولة الاحتلال إسرائيلي تعرف جيدا أن عدوها الأول والأخير هو العرب، أما إيران فكانت منذ قيام دولة إسرائيل صديقا حميما سواء في عهد الشاه أو بعد سقوطه، "وإسرائيل" على علم ويقين رغم تصريحات ملالي إيران المتكررة عن احتلال القدس والحرب مع الكيان الصهيوني، إذا ثبت أن ذلك للاستهلاك المحلي ومزايدات سياسية داخلية وخارجية. لقد ثبت هذا عندما زودت إسرائيل إيران بقطع الغيار والأسلحة لاستعمالها في الحرب الإيرانية - العراقية، ولقد حاول ملالي طهران إخفاء هذه الفضيحة الكبرى وحاول الخميني نفسه أن يدخل الميدان وكذب الخبر مرات وكرات، إلا أن الفضيحة كانت أكبر من أن تخفى.
إن المخطط المشؤوم الذي نفذته إيران بالتعاون مع إسرائيل يعطي مؤشرات خطيرة هي أبعد بكثير من التعاون الاقتصادي والسياسي بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الصهيوني، إن المتتبع لأحداث المنطقة يعرف بوضوح أن إسرائيل لا تستطيع العيش في المنطقة إلا إذا ضعفت الدول العربية التي تهدد كيانها التوسعي، فقوة الدول العربية تعني ضعف إسرائيل، لقد ثبت لإسرائيل أن إيران العمائم سوق رائجة لها وصديق لا غنى عنه، فالبضائع الاستهلاكية التي تستوردها إيران في عهد الشاه، والتعاون الإيراني في ظل الثورة الإسلامية يتجاوز تعاون الصديق مع صديقه، بل أصبح تعاون الحليف مع حليفه، فمتى كان الشاه يشتري الأسلحة ويستورد قطع الغيار من إسرائيل كما فعلت الثورة الإسلامية في إيران!
فالعلاقات الإيرانية - الإسرائيلية فيها كثير من الانطباعات والتناقضات، فعلى صعيد التصريحات لا تخلو لغة المسؤولين الإيرانيين منذ الثورة عام 1979 من مفردات العدو والعمل على إزالة إسرائيل من الوجود وشعارات تحرير القدس والاحتفاليات بهذا الشأن كثيرة وكلها لا تخرج عن لغة التعاطف والتأييد اللفظية بينما الواقع على الأرض عكس ذلك، ومنها ما هو مثبت بشكل لا يحتمل التأويل مثل تزويد إسرائيل لإيران بقطع غيار الأسلحة للجيش الإيراني أثناء حربه مع العراق في الثمانينيات من القرن الماضي، والآن وفي هذه الأوقات، وبينما تتشدد أمريكا وتقود تحالفا لحصار إيران اقتصاديا تتسرب تقارير صحافية عن حجم التبادل التجاري بين البلدين.
وفضلا عن التعاون الاقتصادي فإن إيران تصدر يهودها إلى إسرائيل لدعم الدولة اليهودية في صراعها الديموغرافي مع الفلسطينيين. ونقلت جريدة "الوطن" السعودية عن مصادر إسرائيلية رسمية قولها: إن 200 يهودي إيراني هاجروا إلى إسرائيل في عام 2008 مقارنة بـ 65 في 2006، منوهة بأن إجمالي عدد اليهود الإيرانيين الذين هاجروا إلى إسرائيل منذ عام 1948 وصل إلى 77833 شخصا.
وإذا كانت كل هذه التسريبات قد كشفت عن حجم التبادل التجاري الإسرائيلي - الإيراني بالرغم من الحصار الاقتصادي المفروض على إيران ومدى الدعم الإيراني لإسرائيل بالسماح ليهودها بالهجرة وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين عن ضرورة عدم السماح لإيران بامتلاك برنامج لإنتاج السلاح النووي، وفي الوقت نفسه الذي يتحدث فيه المسؤولون الإيرانيون ويتشدقون بضرورة سحق إسرائيل من الوجود، فإن الأمر يدعو للحيرة لمن لا يفهم أساليب السياسة ودهاليزها.
الذي يحتار أيضا من الموقف الإسرائيلي من إيران عليه أن يدرك جيدا مرتكزات السياسية الإسرائيلية، التي منها:
استراتيجية شد الأطراف، حيث تعتبر إسرائيل إيران من دول الأطراف. وفي بحثه "الكيان الصهيوني ومبدأ شد الأطراف" يعرف الباحث الدكتور سمير خيري مبدأ شد الأطراف بأن قوة سياسية معينة كأن تكون دولة أو تحالفا من الدول أو قوة إقليمية تلجأ في تحركها مع خصم لها إلى استغلال عدد من العناصر تتجاوز التصور التقليدي لتقدير قوة هذا الخصم، بمعنى أن هذه العناصر تخلق أو تفتعل من قبل الجهة التي تستخدم هذا المبدأ لتزيد من إضعاف إمكانات الطرف الآخر في الصراع، وهذا التوظيف يعتبر جزءا من مبدأ شمولية التحرك في المواجهة الاستراتيجية مع الخصم لأن عناصر المواجهة الاعتيادية أو التقليدية لا يركز عليها بالذات فحسب، وهي تتمثل بالقوة العسكرية والإمكانات الاقتصادية والتقدم التكنولوجي، ولكن يصار إلى تجاوز تقدير قيمة هذه المعطيات إلى امتدادات أخرى يمكن من خلالها إحداث خلل أو إضعاف كبير في قوة الخصم، ورغم أن مظاهر مثل هذا التوجه عديدة وكثيرة ولكن النتيجة المقررة والبعيدة عن الالتحام مع العناصر التقليدية في قوة الخصم تتمثل في احتواء وتحريك تلك العناصر المضافة التي يمثلها ويعبر عنها خير تعبير مبدأ شد الأطراف.
ويؤدي هذا المبدأ إلى إشغال الطرف المستهدف في عملية الصراع في ميادين ثانوية تؤدي في حالة المجتمعات القومية إلى تفتيت وتنافر الإمكانات التي يتيحها التجمع القومي أو إمكانات الدولة في حد ذاتها، وبالتالي يبعدها في اهتماماتها عن الطرف الرئيس للصراع الذي استغل مبدأ شد الأطراف لصالحه.
وهذا بالضبط ما تمثله إيران بالنسبة لإسرائيل فهي أحد مثلث الأطراف الذي يحيط بالعالم العربي، والضلعان الآخران هما إثيوبيا وتركيا، فبمقدار تحالف هذه الأضلاع أو الأطراف مع أعداء الأمة سواء إسرائيل أوأمريكا، فإن الأمة حينئذ تقع في حصار وهذا هو الحادث الآن.
فكل فترة تكشف التقارير الصحافية وغيرها حجم التعاون الاقتصادي الذي يتم بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وإيران الثورة الإسلامية فقد كشفت تقارير في القدس المحتلة، أن العلاقات الاقتصادية بين إيران وإسرائيل متينة على الرغم من العداء الظاهر بين الجانبين. وأفادت تقارير إسرائيلية بأن 200 شركة إسرائيلية على الأقل تقيم علاقات تجارية مع إيران، بينها استثمارات في مجال الطاقة الإيرانية. فقد أشارت صحيفة "هآرتس" إلى أنه على الرغم من سن قانون في الكنيست في عام 2008 يحظر على الشركات الإسرائيلية إنشاء علاقات تجارية مع إيران، إلا أن السلطات في إسرائيل لم تنفذ أية خطوة في هذا الاتجاه. وأشارت صحيفة "يديعوت أحرونوت" إلى أنه على الرغم من تقلص حجم العلاقات التجارية بين إسرائيل وإيران في العقد الأخير على أثر دعوات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد للقضاء على إسرائيل، إلا أن العلاقات التجارية بين الدولتين ما زالت جارية بواسطة شركات تعمل في المنطقة. وتأتي الأنباء حول هذا النشاط التجاري بعدما أعلنت الولايات المتحدة عن أنها وضعت شركة الملاحة البحرية الإسرائيلية التابعة لرجل الأعمال الأكثر ثراء في إسرائيل سامي عوفر على لائحة سوداء بعد بيع ناقلة نفط لإيران، وهو ما اعتبرته الإدارة الأمريكية بمثابة "طعنة سكين في الظهر".
ونقلت الصحيفة عن يهوشع مائيري رئيس "جمعية الصداقة الإسرائيلية - العربية" التي تشجع تطوير علاقات اقتصادية لتشكل بديلا للعملية السياسية قوله إنه "على الرغم مما يظهر على سطح الأرض (أي الدعوات لفرض عقوبات على إيران)، إلا أن العلاقات السرية مع إيران مستمرة بحجم عشرات ملايين الدولارات كل عام". وأضاف مائيري أنه "حتى عندما يتم إطلاق تصريحات قاسية في الهواء من كلا الجانبين لكن الأعمال التجارية تزدهر والعلاقات مع النظراء الإيرانيين رائعة وفي المجال التجاري يتجاهلون التصريحات السياسية". وتابع أنه "بالإمكان القول إنه توجد أرضية خصبة لتعميق التجارة وحتى أنه في العام الأخير تمت إقامة علاقات تشمل تقديم استشارات في مجال هندسة وبناء مصانع أغذية".
وفي سياق متصل أشارت صحيفة "يديعوت أحرونوت" إلى أن الإسرائيليين يصدرون لإيران بالأساس وسائل للإنتاج الزراعي مثل أسمدة وأنابيب ري وهرمونات لزيادة در الحليب وبذور، بينما يصدر الإيرانيون لإسرائيل الفستق والكاشيو والجرانيت. وقال رئيس اتحاد مقاولي أعمال الترميم في إسرائيل مستورد الجرانيت عيران سيف للصحيفة إن "الجرانيت الإيراني منتشر جدا ومفضل جدا في إسرائيل ويتم استخراجه من جبال إيران ويصل إسرائيل عن طريق تركيا". وأضاف سيف إنه يعارض هذه التجارة وأن "الإيرانيين اقترحوا علي شخصيا بيعي مئات الأطنان من الجرانيت وأن يتم نقلها عبر تركيا، حيث يتم هناك صقلها بسعر رخيص لكني رفضت، وحاولت تنظيم مقاطعة على إيران لكني لم أنجح في هذا".
ولا تنحصر العلاقات التجارية بين إسرائيل وإيران في الشركات الخاصة، إذ كشفت "هآرتس" في الماضي عن أن شركة الكهرباء وسلطة المطارات في إسرائيل اشترت معدات بمئات ملايين الدولارات من شركة دنماركية - ألمانية لديها علاقات تجارية مع إيران. وقالت "هآرتس" إنها توجهت إلى مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بهذا الخصوص، وكان الرد أن هذا الموضوع ليس في مجال مسؤوليته وإنما مسؤولية وزارة المالية التي لم تتخذ أية خطوات لمنع التجارة بين إسرائيل وإيران حتى اليوم.
وفي سياق متصل ذكرت صحيفة "روسيا توداي" الناطقة بالإنجليزية قبل سنتين، عن اعتراف مدهش لجنرال إسرائيلي متقاعد قال فيه إن تل أبيب باعت أسلحة لإيران، وقال إن إسرائيل تبيع أسلحة لإيران رغم تفسخ العلاقات بين إيران وإسرائيل منذ قيام الثورة الإسلامية بقيادة الخميني.
ويعود التعاون بين إيران وإسرائيل إلى عام 1984، عندما تم عقد صفقة أسلحة إسرائيلية إلى إيران بلغت قيمتها أربعة مليارات دولار وهي تعد أكبر صفقة سلاح بينهما، وحوت 58 ألف قناع مضاد للغازات السامة من قبل شركة "شالون للصناعات الكيماوية" وكاشفات للغازات صنعتها شركة "إيلبت" الإسرائيلية تستعمل لغرض الكشف عن معامل الأسلحة الكيماوية، وتم نصب أنظمة السيطرة على الحرائق في دبابات شرقية بيعت إلى إيران، إضافة إلى 22 عربة مزودة بمعدات خاصة بالحرب الكيماوية ثم كان التعاون بينهما في إنشاء مصانع للأسلحة الكيماوية بغرض القضاء على الرئيس العراقي الراحل صدام حسين وتجهيز وسائل واقية ضد الأسلحة الكيماوية التي كان يتردد أن الرئيس العراقي يملكها!
هذا بعض مما كشفته الأيام عن طبيعة العلاقة بين البلدين وتشير بوضوح إلى حجم السذاجة التي ينجرف البعض من ورائها للحديث عن العداوة المطلقة التي تكنها إيران لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وهذا يخالف الواقع فهم على أكثر من سمن وعسل. فهل ستستمر البروبوغندا الإيرانية بتقديم نفسها كعدو للمشروع الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة؟ وهل ستبقى تستخدم العراق ولبنان وفلسطين كورقة ضغط لحماية مصالحها الاستراتيجية في المنطقة؟ وكم يساهم الديني في خدمة السياسي في الوعي الإيراني والاستراتيجية الإيرانية؟ أسئلة كثيرة ملحة تثير كثيرا من الاستفهام لمعرفة حقيقة العداوة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي!