تحديات الجمهورية الثانية في مصر

> لقد أظهرت الأحداث التي شهدتها مصر منذ عودة الروح إلى ميدان التحرير في الثامن من تموز (يوليو) الماضي أن ثمة مخاطر حقيقية تواجه مسيرة الثورة المصرية وربما تدفع بها إلى المجهول. ولعل موقعة العباسية بين المتظاهرين الذين حاولوا التوجه إلى مقر وزارة الدفاع مساء 23 تموز (يوليو) 2011 وبين بعض أهالي المنطقة تبين حالة الاحتقان وعدم الرضا التي باتت تمثل أهم ملامح المشهد السياسي المصري بعد ثورة 25 يناير العظيمة.
وأحسب أنه على الرغم من تعدد القوى والجماعات الثورية المصرية فإن هناك اتفاقا عاما على ضرورة تحقيق مطالب الثورة، وأن يلتزم المجلس العسكري الحاكم بوعوده المتكررة الخاصة بتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة والقيام بما يتطلبه ذلك من إجراءات وسياسات واجبة. والملاحظ - حتى من قبل المتعاطفين مع العسكر في مصر - أن قرارات المجلس الأعلى للقوات المسلحة تتسم بالبطء الشديد في معظم الأحيان وبالارتجالية وعدم الشفافية أحيانا أخرى؛ إذ لا تزال مسألة تحقيق القصاص للشهداء الذين قتلوا على أيدي قوات الأمن مطلبا ملحا وتحتل أولوية كبرى، كما أن محاكمة رموز النظام السابق بتهم ارتكاب جرائم خطيرة أدت إلى إفساد مصر قبل الثورة لم تشهد أي تطور جدي يرضي تطلعات الثوار وأهالي الشهداء.

إشكالية العدالة الناجزة
إن الاعتقاد السائد اليوم لدى غالبية المصريين هو أن إجراءات التقاضي الطبيعية قد فشلت فشلا ذريعا في مواجهة الانتهاكات الخطيرة التي ارتكبها نظام مبارك البائد. فهل يعقل مثلا أن يصدر حكم واحد فقط غيابيا على أحد أفراد الشرطة المتهم بقتل المتظاهرين، بينما لا يزال الضباط والبلطجية الذين أسهموا في مقتل نحو 850 متظاهرا طلقاء، بل ويمارسون أعمالهم بشكل طبيعي؟!. لقد تم تأجيل محاكمة ضباط الشرطة وغيرهم من المسؤولين السابقين (بما في ذلك حبيب العادلي وزير الداخلية الأسبق)، وذلك أكثر من مرة واحدة. ومن جهة أخرى، فقد تم الإفراج بكفالة مالية عن بعض الضباط الآخرين.
ولعل قضية الشاب السكندري خالد سعيد الذي لقي مصرعه على أيدي رجال الأمن في حزيران (يونيو) 2010، وهي القضية التي أسهمت في تقويض نظام حسني مبارك، تمثل نموذجا صارخا لفشل عملية التقاضي العادية في الوفاء بأهداف ثورة يناير. فقد تم تأجيل القضية مرارا وتكرارا وكان آخرها في موعد 23 أيلول (سبتمبر) المقبل. والمثير للعجب أن المجلس العسكري الحاكم لا يزال يستخدم المحاكم العسكرية في مواجهة المدنيين، حيث تم إحالة آلاف الأشخاص منذ الثورة إلى القضاء العسكري بتهم البلطجة وترويع الآمنين وتهديد الأمن العام. وهنا قد تبدو المفارقة واضحة، حيث يكون من الأولى والأهم محاكمة من أفسدوا مصر بأكملها وعرضوا أمنها القومي للخطر قبل الثورة أمام المحاكم العسكرية.
وقد طرح بعض الكتاب ضرورة الاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي شهدت مراحل انتقالية من النظم الاستبدادية إلى إقامة نظام ديموقراطي مثل جنوب إفريقيا. فبعد انهيار نظام الفصل العنصري (الابارتهيد) تبنت حكومة جنوب إفريقيا مبدأ العدالة والمصالحة وفقا لرؤية نيلسون مانديلا القاضية بضرورة تجاوز الماضي وأخطائه. وعليه فقد تم التصالح مع مرتكبي الجرائم في نظام الفصل العنصري السابق بعد اعتذارهم عنها وتقديم العفو العام عنهم. وأظن أن غالبية المصريين ترفض تماما هذا التوجه وتطالب بضرورة إعمال مبدأ العدالة الناجزة حتى يتحقق السلام والاستقرار في ربوع مصر المحروسة.
وإذا كان برنامج حكومة عصام شرف الثانية قد أقر مبدأ العدالة الناجزة ، بل أن رئيس الوزراء نفسه أعلن صراحة عن تكليف وزير العدل بمراجعة قانون الغدر لإمكانية تطبيقه على من أفسد الحياة السياسية في مصر في ظل النظام السابق فإن ذلك دليل واضح على مدى ارتباك من يتولى أمر الإدارة في مصر. ولا ندري إذا كان ذلك الارتباك متعمدا أو ناتجا عن غياب الرؤية. وأظن أن كلمة السر هنا تتمثل في أن الثوار الذين أطاحوا بالنظام البائد لا يتولون الحكم بأنفسهم، حيث أنهم وكلوا غيرهم ممن حمى الثورة بإدارة دفة الحكم في البلاد.
إن التجربة المصرية ذاتها غنية ويمكن الاستفادة منها حتى تظل روح الثورة مصرية خالصة. ففي أعقاب ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 صدر قانون الغدر لضمان عدم تهرب المفسدين من العقاب، وذلك بالتحايل على إجراءات التقاضي المعتادة. وقد حدد القانون الأفعال الموجبة للعقاب لكل من تولى وظيفة عامة، وهي: (1) أي عمل من شأنه إفساد الحكم أو الحياة السياسية بطريق الإضرار بمصلحة البلاد أو التعاون فيها أو مخالفة القوانين. (2) استغلال النفوذ ولو بطريق الإيهام للحصول على فائدة أو ميزة ذاتية لنفسه أو لغيره من أية سلطة عامة أو أية هيئة أو شركة أو مؤسسة. (3) استغلال النفوذ للحصول لنفسه أو لغيره على وظيفة في الدولة أو وظيفة أو منصب في الهيئات العامة أو أية هيئة أو شركة أو مؤسسة خاصة أو للحصول على ميزة أو فائدة بالاستثناء من القواعد السارية في هذه الهيئات. (4) استغلال النفوذ بإجراء تصرف أو فعل من شأنه التأثير بالزيادة أو النقص بطريق مباشر أو غير مباشر في أثمان للعقارات والبضائع والمحاصيل وغيرها أو أسعار أوراق الحكومة المالية أو الأوراق المالية المقيدة في البورصة أو القابلة للتداول في الأسواق بقصد الحصول على فائدة ذاتية لنفسه أو للغير. (5) كل عمل أو تصرف يقصد منه التأثير في القضاة أو في أعضاء أية هيئة خولها القانون اختصاصا في القضاء أو الإفتاء. (6) التدخل الضار بالمصلحة العامة في أعمال الوظيفة ممن لا اختصاص له في ذلك أو قبول ذلك التدخل.
وعليه، فإنه يمكن إصدار قانون جديد مماثل لمحاكمة هؤلاء الذين أفسدوا الحياة السياسية في مصر في عهد الرئيس السابق حسني مبارك.

غياب الشفافية والرؤية
على الرغم من أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد أصدر حتى كتابة هذه السطور 70 بيانا على صفحته الرسمية على "الفيس بوك"، كما أنه أعطى مساحة واسعة للحوار العام فإن رؤية العسكر بشأن المستقبل لا تزال تطرح أكثر من علامة استفهام. وأحسب أن الطرف الأهم في المعادلة السياسية في مصر اليوم والمتمثل في القوى الشبابية والنخب السياسية الصاعدة لا يزال غائبا عن العملية السياسية الحقيقية في مصر.
وإذا كان الإعلان عن ضرورة تسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة أمرا يبعث على الاطمئنان فيما يتعلق بنوايا الجيش المصري وعدم رغبته في الاستمرار بالسلطة، فإن ذلك لا يمنع من انتقاد عملية إدارة المرحلة الانتقالية. وعلى سبيل المثال أثار إصدار المجلس العسكري لقانون مجلسي الشعب والشورى حالة من الجدل الواسع النطاق بين القوى والجماعات السياسية. فعلى الرغم من أن القانون نزل بسِن الترشيح إلى 25 عاما فإنه قسّم النظام الانتخابي بالتساوي بين القائمة النسبية والنظام الفردي على أن تجرى انتخابات مجلسي الشعب والشورى في يوم واحد، وهو الأمر الذي اعترضت عليه كثير من الأحزاب والقوى السياسية.
إن روح ثورة يناير المجيدة أظهرت أن الجيش هو ملك للشعب المصري وفقا للدستور. وقد جسدت هتافات وشعارات الثوار هذا التلاحم من خلال القول إن "الجيش والشعب يد واحدة". ومنذ صدور البيان الأول للمجلس الأعلى للقوات المسلحة في العاشر من شباط (فبراير) 2011 كان من الواضح تماما انحياز الجيش المصري لصالح الثورة. بيد أن حالة الارتباك في إدارة شؤون البلاد بعد ذلك والميل إلى التباطؤ من خلال استراتيجية الوقت في التعامل مع مطالب الثوار أدت إلى حدوث خلل في العلاقة بين المجلس العسكري الحاكم من جهة وبين الثوار من جهة أخرى. وقد أفضى ذلك بدوره إلى أمرين:
أولهما عودة المتظاهرين إلى ميدان التحرير وغيره من الميادين في المحافظات الأخرى مثل السويس والإسكندرية، وذلك من أجل التوكيد على مطالب والهداف ثورة يناير وأهمها محاكمة قتلة الثوار والقصاص منهم وتطهير البلاد من الفساد والمفسدين، حيث يتم اقتلاع جذور نظام مبارك كليا.
وثانيا اتجاه بعض القوى الشبابية مثل حركة 6 أبريل إلى توجيه النقد اللاذع للمجلس العسكري، بل والمطالبة صراحة بإقالة المشير محمد حسين طنطاوي القائد العام للقوات المسلحة ورئيس المجلس العسكري الحاكم. ولأول مرة منذ قيام ثورة يناير يأخذ بعض الغلاة من المتظاهرين منحى خطيرا بإصرارهم على الخروج من ميدان التحرير والتوجه صوب مقر وزارة الدفاع. وربما يعكس ذلك - كما بيّنا - اتساع الهوة بين من يتولى الحكم وبين من قام بالثورة ورفع لواءها.

نحو إنقاذ الثورة المصرية
ثمة إدراك عام لدى المصريين بأن ثورتهم في خطر وأن هناك قوى عديدة في الداخل والخارج تتربص بها لتدفعها بعيدا عن تحقيق أهدافها المنشودة. وأحسب أنه يمكن التعويل على ركائز ثلاثة للمضي قدما بالطاقة الثورية في مصر إلى بر الأمان:
أولا: العمل على جعل تحقيق الأمن والاستقرار هدفا أسمى لحكومة تسيير الأعمال. وأظن ذلك يرتبط ارتباطا وثيقا بإعادة هيكلة وزارة الداخلية المصرية لتصبح وزارة للثورة فتتخلى عن مناهج وأساليب النظام البائد. ويمكن أن يسير ذلك بالتوازي مع حملات تطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين وفلول الحزب الوطني المنحل.
ثانيا: تحقيق العدالة الانتقالية الناجزة؛ وذلك بهدف مواجهة الميراث الضخم من فساد النظام السابق والانتهاكات الخطيرة التي مارسها ضد حقوق الإنسان. ولعل ذلك يعني ضرورة اتخاذ مجموعة من الإجراءات والآليات منها: محاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات أمام محاكم جنائية (ويمكن في هذه الحالة إنشاء محكمة جديدة للغدر)، وتشكيل لجان تقصي الحقائق لمعرفة ما حدث في ظل النظام السابق، والأهم من ذلك كله هو الإصلاح القانوني والتشريعي وتأهيل أجهزة الشرطة المختلفة، حيث تتعامل وفق منظومة حقوق الإنسان.
ثالثا: الإبقاء على حيوية وروح ميدان التحرير حتى تظل القوة الدافعة لثورة يناير الضامن والمحرك إلى أن تتحقق جميع أهداف ومطالب المصريين، وإلا أصبحت مصر - كما يسخر القذافي - قد غيرت رئيسا برئيس آخر. فالعودة لميدان التحرير - على الرغم من شطط بعض المتظاهرين - تحافظ دوما على بريق الثورة اللامع.
إن على من يتولى الحكم اليوم في مصر القيام باتخاذ إجراءات عملية تقنع المواطنين بأن الثورة قد آتت آكلها وأدت إلى تغييرات جوهرية، وذلك من خلال محاسبة القتلة والمفسدين وتطهير أجهزة الدولة حتى يمكن إرساء الدعائم الديمقراطية الصحيحة للجمهورية الثانية في مصر المحروسة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي