الفساد والشانزليزيه

يبدو أن كارثة سيول جدة كانت وما زالت مقياس مقارنة الفساد في المملكة، وقد يكون السبب أنها أخذت اهتماما كبيرا على جميع المستويات، وأن تطبيق الأوامر السامية بخصوصها أخذ جدية غير معهودة، أو أن المصيبة كانت أكبر من السكوت عنها لأنها مست حياة المواطنين. وبغض النظر عن الأسباب، فإن المهم أنها حركت مياه الفساد الراكدة واليوم أصبح الفساد من الأولويات المهمة في نظر الجميع على جميع مستويات الدولة.
ولفت انتباهي أخيرا أحد الأخبار المتلاحقة بخصوص التحقيقات مع المسؤولين أو المتهمين في تلك القضية، ولا أعلم إن كان الخبر قد صدر من مصادر رسمية أم هي اجتهادات صحافية في الصياغة. فقد جاء الخبر ما نصه التالي ''أكّدت مصادر مطلعة أن هيئة الرقابة والتحقيق وهيئة التحقيق والادعاء العام تواصلان إجراءت استكمال التحقيق ودراسة محاضر الاستدلال الموثقة ضد بقية المتهمين الذين تمت إحالة ملفاتهم على خلفية كارثة سيول جدة وعددهم 332 متهمًا، في إطار حرص الإجراءات التحقيقية واطلاعها على الأدلة والقرائن المرفقة بالمحاضر المرفقة مع التهم .. فيما تبيّن أن متهما آخر كان يشغل منصبا كبيرا في أمانة جدة يواجه عددا من التهم المتعلقة باستغلاله منصبه الوظيفي في إجازة أحد المشاريع المتعلقة بصيانة ودرء الأمطار والسيول وتسبّبه في عدم تنفيذ المشروع بالطريقة الصحيحة وضلوعه في رشوة جعلته وأسرته وخادمته من روّاد شارع الشانزليزيه في باريس باستمرار بالتزامن مع حلول فترة الإجازة''. ولعل الجزء الأخير من الخبر ''جعلته وأسرته وخادمته من روّاد شارع الشانزليزيه في باريس'' هو ما لفت انتباهي، حيث ربط الفساد والثراء بالشانزليزيه أمر جديد ومبتكر في قضايا الفساد، ولست متأكدا حسب الخبر من أن هذا السبق الإعلامي أو هذه الشفافية الكبيرة في الخبر يكون مصدرها المحكمة أو الادعاء أو الصحافة!
وإن كان الشانزليزيه الشارع وباريس البلد عرف بأنه مرتع الأثرياء ومكان الأشقياء، إلا أن تثبيت تهمة الفساد على الأشخاص بسبب وجودهم أو قضاء إجازاتهم في باريس ، فهذا أمر أعتبره مثيرا للاهتمام لسببين رئيسيين، أولهما أن الشارع كان وما زال مزاراً سياحيا مهما في باريس باستثناء سوء الاستخدام من طبقات معينة تعتبره مكانا للبهرجة والظهور، وعليه فإن مقياس الفساد هنا قد يشمل أناسا ''من روّاد شارع الشانزليزيه'' على حساب البطاقات الائتمانية، من الظلم بمكان أن يشملهم مقياس الفساد! السبب الآخر أن باريس أصبحت من الماضي لاستعراض قوى الفساد على المستوى العالمي، وهناك مدن كثيرة حول العالم تتصارع فيها قوى الثراء النزيهة والفاسدة على حد سواء على استعراض القوى المالية واللجوستية خلال المواسم المختلفة، فالشتاء له أماكن، والصيف بين الشواطئ والجزر واليخوت وخلافها، وقد يرى من كتب ذلك التقرير أن يقوم بزيارة سريعة لتلك المناطق ليعرف أن صاحب شارع الشانزليزيه ليس مقياس الفساد، وأن كلا فساده على قده! أو أن كلاً يمد فساده على قدر رجليه!
والأهم من ذلك أن الفساد أصبح لغة عالمية، وأصبح من طبيعة الناس على اختلاف أعراقهم وألوانهم وجنسياتهم، والتاريخ القريب أخرج لنا قصصا مختلفة عن الفساد على مستوى العالم، سواء على مستوى تحولات الدول الاقتصادية أو على مستوى التشريعات وتلاعب القطاع الخاص، والأزمة المالية العالمية خرجت بأمثلة عديدة على حالات الفساد المختلفة التي دفع ثمنها الاقتصاد العالمي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي