الكيانية الفلسطينية وخطاب الرئيس عباس
ابتداء يجدر التمييز بين وجود كيانيتين فلسطينيتين: الأولى تضطلع بمهمة التحرير، والأخرى تشمل الأطر التمثيلية للشعب في المناطق المحررة. ونجزم أن إنجاز الاستقلال الكامل لفلسطين ليس خارج معادلة التلازم بين هدف التحرير واستراتيجية بلوغه. إن الفصل في هذه المعادلة تكريس للتكتيكات التي ثبت عقمها، منذ إعلان وثيقة الاستقلال في الجزائر في تشرين الثاني (نوفمبر) 1988، التي صدرت عن المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الخامسة عشرة.
ليس من شك في أن تعقيدات القضية الفلسطينية، وتشابكها وارتباطاتها الإقليمية والدولية والطابع الاستيطاني لاحتلالها، جعل منها قضية مستعصية. ورتب تلازم مشروع نهضة العرب بقضية تحرير فلسطين عليهما مهمات مركبة. فكما كان التدخل فاضحاً، ففي المشرق العربي، بفرض اتفاقية سايكس- بيكو كأمر واقع. وكان كذلك في مسألة اغتصاب فلسطين، بفرض وعد بلفور كأمر واقع أيضا. وكان ذلك أحد أوجه التشابك بين النهضة وتحرير فلسطين. وقد تكشف لاحقا أن العجز عن تحرير فلسطين هو ذاته العجز عن تحقيق التنمية والتقدم والنهضة.
نفخت النكبة روح التمرد، وتأكد أن خلل التوازن في الصراع مع الصهاينة ليس عسكريا فقط. وأن الحل يكمن في كنس الترسبات الراكدة في الواقع العربي. ومنذ ذلك الحين، أصبح النظام العربي يستمد مشروعيته من ارتباطه بقضية فلسطين. لكن المقاومة المعاصرة لم تنطلق بزخم قوي إلا مع حركة فتح، ولم تأخذ حيزها الحقيقي إلا بعد نكسة 1967.
في بداية الستينيات عملت إسرائيل على تحويل مياه نهر الأردن لصحراء النقب، وتداعى القادة العرب لقمة عقدت في القاهرة عام 1964 لاتخاذ الخطوات الضرورية لمنع تنفيذ هذا المشروع. في هذا المؤتمر أقر تشكيل كيان سياسي للفلسطينيين حيثما وجدوا، وخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من رحم ذلك المؤتمر.
في الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت في تموز (يوليو) 1968 أصبح ياسر عرفات رئيسا للجنة التنفيذية للمنظمة وهيمنت حركات المقاومة على قيادة منظمة التحرير ونقلت معها توجهاتها الأيديولوجية والسياسية التي مثلت التيارات السياسية السائدة في الوطن العربي، وكان عدم التجانس في المواقف بين حركات المقاومة وجها آخر للخلافات العربية - العربية.
لقد أفرز زلزال يونيو 1967 حقائق جديدة في علاقة الأنظمة العربية بالمقاومة، فالمشروع الصهيوني لم يعد مجرد خطر جاثم على الواقع العربي، فبتوسع كيانه وتمدده واستيلاؤه على الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وسيناء وهضبة الجولان أصبح يحتل أراضي عربية من خارج فلسطين. هذا يعني أن شكل الصراع العربي - الصهيوني تغير في دول المواجهة من موقف تضامني مع الأشقاء إلى اندماج في الصراع، من خلال وجود أراض محتلة لهذه الدول في قبضة الكيان الغاصب. لقد تغيرت الأجندات العربية من تحرير فلسطين، الذي أثبتت حرب يونيو بالدليل عدم القدرة على تحقيقه، إلى إزالة آثار العدوان.
وما دام الهدف الرئيس قد اختزل من التحرير الشامل إلى التعامل مع نتائج النكسة بما يتسق مع قراري مجلس الأمن الدولي 242 و338 التي تعاملت مع الصراع باعتباره نزاعا على الحدود، فإن معالجة نتائج النكسة لا تستلزم بالضرورة إسنادا استراتيجيا للمقاومة. ومن وجهة نظر دول المواجهة، كما عبر عن ذلك مؤتمر القمة في الخرطوم، يمكن أن تتم معالجة نتائج النكسة بجهد دبلوماسي وتنسيق مع الأمم المتحدة. ومع تبني القادة العرب سياستهم الجديدة، أصبح حضور الفعل المقاوم رديفا تكتيكيا للموقف الرسمي العربي، الهادف ليس إلى تحرير فلسطين، بل إزالة آثار العدوان.
لكن النجاح المطرد للمقاومة الفلسطينية، بعد حزيران، خاصة نتائج معركة الكرامة، أدى إلى تأجيج مشاعر التأييد العربي للمقاومة، وأصبحت المقاومة عنوانا للمرحلة بز في مشروعيته، مشروعية نظم المواجهة. لكن الأنظمة العربية اعتمدت الحلول السياسية بديلا عن المواجهة العسكرية لإزالة آثار العدوان.
حتى حرب الاستنزاف التي مثلت ملحمة بطولية من ملاحم الكفاح العربي، في مواجهة إسرائيل، لم تخرج عن إطار التحضير لإزالة آثار العدوان. وتزامنت مع تحركات سياسية، قام بها المبعوث الدولي، جونار يارنج، واختتمت بقبول مشروع روجرز، ومن ثم رحيل القائد جمال عبد الناصر، إلى العالم الآخر.
ومن جهة أخرى، كان لحضور الكيان السياسي الفلسطيني في لبنان دور سلبي على مشروع التحرير. فقد أدى انشغال المنظمة ببناء هياكلها إلى تحويل اهتمامها عن هدفها الحقيقي كحركة تحرر وطني. فبدلا من تطوير تكتيكات للنهوض بالكفاح المسلح أهدرت جهودا كبيرة في التعامل مع المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين. وكانت نتيجة ذلك أن بدأت المنظمة في ممارسة دور الدولة داخل الدولة اللبنانية، وابتعدت عن دورها الأساسي كحركة تحرر وطنية. وأدى ذلك إلى توسع كبير في الجهاز البيروقراطي للمنظمة لمواجهة المتطلبات الجديدة، ولضمان استمرار المؤسسات الفلسطينية التي بنيت حديثا. وفي مناخ كهذا، وجدت المنظمة نفسها بعد بناء مختلف مؤسساتها في لبنان، مضطرة لحماية تلك المنشآت كقواعد ثابتة للمقاومة. وبينما يتوقع منها أن تخلق قواعد حرب متحركة، بما يمكنها من مواصلة عملياتها ضد الاحتلال، بقيت مكانها، وواصلت تلقي الضربات من أعدائها وامتصاصها باستمرار.
إن الحقائق الجديدة جعلت المنظمة أكثر ارتباطا بالأنظمة العربية، فالمؤسسات التي جرى بناؤها في حاجة إلى تمويل مستمر. وانسيابية هذا التمويل رهن للقبول بمواقف سياسية. ومن جهة أخرى، فإن منظمة التحرير، بعد انشغالها بأحداث لبنان، والنهوض الفلسطيني بالضفة الغربية، الذي نقل جاذبية الصراع من المخيمات الفلسطينية في الخارج، والضربات المتتالية من العدو الصهيوني، والأبرز بينها اجتياح آذار (مارس) عام 1979، وغزو بيروت في صيف عام 1982، أصبحت أكثر ميلا للحلول السياسية منها للكفاح المسلح.
وهكذا رأينا التغيرات في التوجه السياسي من تبني تحرير فلسطين إلى القبول بدولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، تكون عاصمتها القدس الشريف. وتم طرحه أول مرة في شباط (فبراير) 1974 بعد أشهر عدة من حرب أكتوبر التي مثلت انتقالا في الاستراتيجيات العربية باتجاه القبول بالتصالح مع الكيان الصهيوني.
وخلال العام نفسه، اتخذ القادة العرب في مؤتمر قمتهم الذي عقد في الرباط في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1974 قرارا باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، فإذا بالاعتراف بالكيانية السياسية الفلسطينية يصبح تنصلا كاملا من مشروع التحرير.
إن التمييز بين هدف تحرير فلسطين ووجود أطر تمثيلية للشعب الفلسطيني، مهم جدا لاستكمال التحليل، فرغم إدراك استحالة تحقيق هدف التحرير من غير وجود هيئات تمثيلية لشعب فلسطين، فإن وجود هذه المؤسسات لا يعني حتمية التوجه نحو فلسطين، بآفاقها وموقعها، كما هي جغرافيا وتاريخ.
لماذا نطرح هذا الجدل في هذا المنعطف التاريخي للقضية الفلسطينية؟
لنتحدث أولا عن القضية الفلسطينية في سياق حركات التحرر الوطني التي شكلت ملمحا مهما من ملامح القرن العشرين. لقد ماجت شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية بإيقاع متناغم أنجز في حقبة قصيرة هدف الاستقلال. ولا شك أن الظروف التاريخية وانقسام العالم إلى معسكرين، وهزيمة الاستعمار التقليدي في الحرب العالمية الثانية، أسعفت مشاريع التحرير ومكنتها من إنجاز أهدافها في انتزاع وثائق الاستقلال.
تبنت الولايات المتحدة منطق الإزاحة للبريطانيين والفرنسيين، أما الاتحاد السوفياتي فأمل بنصرته لحركات التحرر الوطني أن يوسع دائرة نفوذه، تعزيزا لاستراتيجيته في الصراع مع القطب الأعظم الآخر. والنتيجة أن الدماء الغزيرة التي سالت في معارك التحرير لم تذهب سدى، فمع نهاية الستينيات أنجزت معظم شعوب العالم الثالث استقلالها السياسي، وتوزعت تحالفاتها، أو استتباعها للخارج، بين السوفيات والأمريكيين. ولم تتبق أرض عربية محتلة غير فلسطين، وأرض عربية أخرى في أطراف الوطن العربي.
النقطة الجوهرية، في هذه القراءة، هي أن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية جاء في منتصف الستينيات من القرن الماضي، بعد أن جرى ترتيب المسرح الدولي، وتحقق انزياح الاستعمار التقليدي، وأصبح التحالف الصهيوني، قائما بامتياز مع قوة جديدة صاعدة، أكثر قوة وحركة، هي الولايات المتحدة. لقد انتهت مرحلة تاريخية، وبدأت مرحلة أخرى، وكان من سوء طالع النضال الفلسطيني أن مقاومته المعاصرة من أجل التحرير قد أخذت مكانها في مرحلة صعود الخط البياني للنظام الدولي الجديد.
النقطة الجوهرية الثانية، هي أن الضفة الغربية وقطاع غزة لم تكونا محتلتين أثناء انطلاق حركة المقاومة، فالضفة الغربية غدت منذ مطالع الخمسينيات جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية، وقطاع غزة، وضع بموجب اتفاقيات الهدنة التي أنهت الحرب في فلسطين تحت الإدارة المصرية. ورتبت هذه الأوضاع على المقاومة صياغة استراتيجياتها، اعتمادا على المخيمات الفلسطينية، التي شكلت عمودها الفقري. ذلك يعني أن فكرة إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع لم تكن في الحسبان، ولم يكن من المنطقي أن يتضمنها برنامج الكفاح الفلسطيني. وفي هذا السياق، نذكر أن جميع فصائل المقاومة التي تأسست سواء قبل نكسة الخامس من حزيران أو بعدها لم تطرح برنامجا مرحليا للتحرير، بل طرحت شعار استعادة فلسطين من الصهاينة من النهر إلى البحر.
هكذا جاء تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية ككيان سياسي يمثل الفلسطينيين في الداخل وحيثما وجدوا في الخارج. لقد ولدت المنظمة في المنافي، حالها في ذلك حال الشعب الفلسطيني المشرد. وينسحب ذلك على فتح. وما دام العمود الفقري لمنظمة التحرير وللمقاومة هم اللاجئون الفلسطينيون، فإن ترتيب الأولويات يستوجب العمل على تأمين حق العودة، وليس تأسيس دولة مستقلة على بعض من فلسطين. إن قيادة منظمة التحرير النضال الفلسطيني من الخارج، والدور الذي اضطلعت به حركة فتح في مقاومة الاحتلال، بعبور الحدود عبر مختلف الجبهات العربية، أسس لكيانية سياسية تفتقر إلى الرقعة الجغرافية، لكن هذه الكيانية هي التي أشعلت جذوة الأمل بإمكانية عودة اللاجئين في المخيمات إلى مواطنهم الأصلية.
هذا الواقع تغير تماما، بعد حرب أكتوبر عام 1973، حيث شهدت المناطق المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، نهوضا شعبيا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وكان ذلك يعني انتقالا رئيسيا في الممارسة والفكر، وتحول منطقة الجاذبية من المخيمات الفلسطينية في الأردن ولبنان وسورية إلى مدن وقرى الضفة والقطاع.
إن تحول منطقة الجاذبية الفلسطينية من المخيمات، حيث الأولوية لحق العودة، إلى الضفة والقطاع أحدث تغييرا رئيسيا في ترتيب الأولويات. فالمواطن الفلسطيني في الضفة والقطاع يواجه القمع الإسرائيلي بشكل مباشر كل يوم، والأولوية بالنسبة له هي التخلص من الاحتلال وإقامة السلطة المعبرة عن تطلعاته في الحرية وتقرير المصير.
وهكذا تزامن انتقال مركز الجاذبية للضفة والقطاع مع إعادة ترتيب الأولويات، فتم طرح الدولة الديمقراطية، حيث يتعايش اليهود والفلسطينيون على أرض واحدة ويتمتعون بحقوق مواطنة متساوية. ثبت لاحقا للقيادات الفلسطينية عدم واقعية هذا الطرح في ظل الخلل في توازن القوى وعدم وجود الرغبة المشتركة لمختلف الأطراف في وضع هذا الشعار قيد التنفيذ. وجرى لاحقا تبني شعار السلطة الفلسطينية، ثم الدولة المستقلة، ليعاد مجددا طرح مفهوم السلطة بعد انتفاضة أطفال الحجارة في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، ولتضع نتائجها المقدمات لتوقيع اتفاقية أوسلو التي عرفت باتفاقية غزة - أريحا أولا.
ومع توقيع اتفاق أوسلو، تم الخلط بشكل تام ونهائي بين دور منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها حركة تحرر وطني، يقع عليها عبء استكمال مهمة التحرير، وبين مهام السلطة الفلسطينية، التي خرجت من رحم اتفاق أوسلو. ومع أن فك التشابك بين المهمتين كان ولا يزال ضرورة ملحة، لكن الأمور بقيت حتى يومنا هذا مرتبكة، وأخذت حقوق المنظمة وأهدافها تتآكل باستمرار لحساب السلطة.
ينبغي في كل الأحوال التمييز بين السلطة الفلسطينية المفترض فيها إدارة شؤون الفلسطينيين في المناطق التي ينسحب منها المحتل الإسرائيلي، ومنظمة التحرير كطليعة للثورة الوطنية، لم تستكمل مهماتها بعد، وعليها أن تتفرغ بالكامل لتلك المهمات، دون ضغوط أو مساومات، ودون الإخلال بالمبررات الأساسية المعلنة التي أدت إلى منحها وحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني في كل المواقع والمنابر.
خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والصيغة التي وردت فيها المطالبة بالاعتراف بالدولة المستقلة تكريس لعملية الخلط، وضبابية الرؤية في ترتيب الأولويات. هذا الخطاب والجدل الذي دار حول ما له وما عليه، سيكون محور مناقشتنا في الحديث القادم.