مسار أمني جديد للعسكريين المتقاعدين

يقول غلاة منظري نظرية الاقتصاد الحر إن الحكومة في أي بلد يجب أن يقتصر دورها على ثلاثة أمور هي القضاء، والأمن، والسياسة الخارجية. وأما بقية عناصر إدارة الدولة الأخرى فمن الأفضل والأرشد تركها للقطاع الخاص، وذلك لقدرته وفعاليته بتقديمها بأحسن المواصفات والمعايير وبالأسعار المناسبة.
إن هذا الطرح والتوجه - مع وجود اختلافات حوله هنا أو هناك - هو الأساس الذي تقوم عليه معظم الحكومات في الوقت الحاضر. ومن كان متخلفاً عن الركب العالمي في ذلك فإنه يعمل جاهداً للوصول إليه بتنفيذ برامج محورها الخصخصة وتمكين القطاع الخاص.
لا يوجد اختلاف أو وجهة نظر لا ترى أهمية الركائز الثلاث لعمل الحكومة (القضاء، الأمن، السياسة الخارجية) فمهما كان توجه أي دولة وفلسفتها السياسية والاقتصادية إلا أن الثلاثي أعلاه هو في قلب الحدث.
وبالنظر للحالة السعودية فإننا نرى أن الثلاثي المهم لعمل الحكومة يحظى بكثير من الدعم والتطوير، مما أدى إلى فعاليته ونجاحه في أداء مهامه وتحقيق أفضل النتائج في إدارة الأمور ذات العلاقة. فسلك القضاء والسلك الدبلوماسي هما من الجهات ذات الجاذبية لدى الراغبين في العمل نظراً لما يتوافر فيهما من مزايا وإمكانات مادية ومعنوية. كذلك القطاع العسكري هو الآخر له جاذبيته وضوؤه الجاذب للانتباه. كما أنه - القطاع العسكري - يقدم مزايا وحوافز هي محل التقدير لدى كثير من منسوبيه. إلا أن هذه المهنة سواء في الأمن أو الدفاع أو الحرس الوطني في حاجة إلى وقفة وإعادة نظر في بعض خفايا أنظمتها وممارساتها. فهذا حق وواجب يجب أن نقدمه تقديراً لتضحياتهم وإنجازاتهم التي كان أحدثها نجاح موسم حج هذا العام.
إن منسوبي القطاع العسكري هم أكثر فئات المجتمع تعرضاً للخطر اليومي سواء كان ذلك في مواجهة المجرمين والمهربين والمتسللين والحوادث الطارئة، أو كان ذلك في الدفاع عن أرض الوطن في مواجهات فرضت على المملكة مثل حرب الخليج وتحرير الكويت واعتداء الحوثيين وغير ذلك كثير. بكل صدق وشفافية نحن المدنيين ننعم بالأمن والأمان - بعد فضل الله - نتيجة جهود ووقفات أبناء أجهزتنا العسكرية في القطاعات كافة.
ومع وضوح هذه الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان إلا أننا نجد أن الرواتب الحقيقية لهذه الفئات أقل من رواتب المدنيين الذين يملأون أجهزة الحكومة مشكلين ما يعرف بالبطالة المقنعة، حيث أكثرنا من موظفي القطاع المدني ''أكل ومرعى وقلة صنعة'' - كما يقول المثل الشعبي. قد يقول قائل إن رواتب العسكريين جيدة، ولكن كلنا يعلم أنها تشمل كثيرا من البدلات التي لا تحتسب من الراتب الأساسي. وهذه الفاجعة يواجهها العسكريون متأخرين عندما ينتقلون من حال إلى حال عند التقاعد، حتى أن بعضهم قد تنقص دخولهم في حدود 30 إلى 40 في المائة.
الأمر الآخر الغريب الذي يواجهه العسكريون في القطاع الحكومي هو منهجية التقاعد، حيث يحكمها نظام فقد كثيرا من العدل مقارنة بنظام التقاعد للمدنيين. فكم عسكري يفاجأ بالتقاعد بصرف النظر عن رتبته وهو في سن العطاء (غالباً في الأربعينيات أو الخمسينيات) بعد أن أفنى شبابه في العمل وأصبح هو وعائلته معتادين على مصاريف ونفقات تحقق لهم مستوى معيشي معين كانوا يمرون به أثناء خدمة وعمل معيلهم. يصدر قرار إحالة التقاعد للفرد وهو في عمر العطاء ولكنه لا يمتلك الخبرات في القطاع المدني، وبالتالي تنعدم أمامه الفرص للعمل في القطاع الخاص. وهنا يصبح بين ناريين: نار الحاجة إلى دخل إضافي، ونار الرفض من الآخرين لأن خبراته كلها ذات خصوصية لا تحتاج إليها كثير من مكونات اقتصاد السوق المعروفة.
إن أقرب سؤال يتبادر إلى الذهن هو: لماذا يجبر العسكري على التقاعد قبل أن يبلغ الـ 60؟ وما الحكمة في ذلك؟ إن رجال الأمن على سبيل المثال في أمريكا وأوروبا يخدمون في قطاعاتهم إلى سن التقاعد الستينية القانونية ومن ثم يحصلون على مميزات تقاعدية تتناسب مع أهمية وضرورة مهنتهم، وما قاموا به خلال سنوات عملهم. كما أن فرص كثير منهم تظل قائمة للعمل في كثير من المواقع بعد تقاعدهم. إن التقاعد في سن الـ 40 أو الـ 50 هو قتل وإهدار لكفاءات وطنية مخلصة تستحق الوفاء منا. فهل نعيد حقهم لهم؟ وهل نستوعب أهميتهم في منظومة بناء الدولة ومساواتهم بالقطبين الآخرين اللذين تقوم على أساسهما وظائف الدولة الحديثة التي أشرنا إليها في مدخل المقال.

ماذا لو؟
ماذا لو تم تطوير مسار أمني جديد للمتقاعدين العسكريين مثل أمن الأحياء السكنية وأمن المواقع الحساسة ولو كان ذلك ببدل مادي مقطوع؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي