الحصى أيضاً قد يكون مفيدا

من المسَلَّم به على نطاق واسع أن الولايات المتحدة تملك أعمق أسواق رأس المال وأكثرها سيولة وكفاءة على مستوى العالم، فالنظام المالي الأمريكي يدعم كفاءة تخصيص رؤوس الأموال، والتنمية الاقتصادية، وخلق فرص العمل.
الواقع أن هذه العبارة وما شابهها من عبارات أخرى كانت بمثابة عملة رائجة بين المشرعين والقائمين على التنظيم والشركات المالية في الولايات المتحدة لعقود من الزمان. وحتى في أعقاب الأزمة المالية التي اندلعت في عام 2008، انتشرت مثل هذه العبارات في مئات الطعون التي تحدت ما يسمى بقاعدة فولكر (التي كانت لتمنع البنوك من الاستثمار في الممتلكات). ولا شك أن القارئ العابر يومئ برأسه كعلامة على الموافقة ثم ينتقل على موضوعات أخرى.
ولكن هناك من العلامات ما يشير إلى أن هذه الافتراضات أصبحت الآن موضع طعن. فقبل الأزمة، كانت السلطات التنظيمية تركز في الأساس على إزالة الحواجز التي تعوق التجارة، وكانت تحابي عموماً التدابير التي جعلت السوق أكثر اكتمالاً من خلال تعزيز التداول الأسرع والأرخص لمجموعة أوسع من المطالبات المالية. بيد أن الحال تبدلت الآن. فعلى النقيض من ذلك، يشكك العديد من الناس اليوم في افتراض مفاده أن زيادة كفاءة الأسواق تشكل دوماً وفي كل مكان منفعة عامة.
ولكن أليس من الممكن أن تعمل هذه السهولة والكفاءة أيضاً على تغذية عدم الاستقرار وخدمة مصالح الوسطاء وليس عملائهم؟ إن عبارات مثل ''رمال في تروس الآلة''، و''حصاة في المحارة''، والتي كانت تصف أمراً سيئاً في أيام عام 2006 الطيبة، والآن أصبحت تستخدم في دعم التغييرات التنظيمية أو المالية التي قد تعمل على إبطاء التداول وتقليص حجمه.
على سبيل المثال، كانت الضريبة المقترحة على المعاملات المالية في الاتحاد الأوروبي تعني ضمنياً رسماً واسع النطاق الغرض منه توليد أكثر من 50 مليار يورو سنوياً لدعم الموارد المالية للاتحاد الأوروبي وإنقاذ اليورو. وحقيقة إن 60 إلى 70 في المائة من العائدات سوف تأتي من لندن تشكل عامل جذب إضافي في نظر أنصار هذه الضريبة على مستوى القارة. ويزعم المعارضون، باستخدام لغة ما قبل الأزمة، أن ضريبة المعاملات المالية من شأنها أن تقلل من كفاءة السوق، وأن ترغم التداول على النزوح إلى مواقع أخرى. ويجيب المدافعون: ''وماذا لو حدث هذا؟ فربما كان القسم الأكبر من التداول عديم الفائدة اجتماعيا، فنصبح في حال أفضل في غيابه''.
ولقد أثارت قاعدة فولكر (على اسم رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق بول فولكر) حججاً مماثلة. فقد اشتكى المنتقدون من أن هذه القاعدة من شأنها أن تقلص السيولة في أسواق مهمة، مثل أسواق الديون السيادية غير الأمريكية. وفي الدفاع عن اختراعه، يعود فولكر إلى زمن أكثر بساطة بالنسبة للنظام المالي، ويشير إلى ''أسواق الأوراق المالية المفرطة السيولة والميالة إلى المضاربة''. والواقع أن رسالته واضحة: فهو لا يشعر بالقلق إزاء انخفاض أحجام التداول.
ولكن هناك المزيد من الحصى في الأفق. ففي تحليل بارع للانهيار المفاجئ في السادس من أيار (مايو) 2010، عندما خسر مؤشر داو جونز تريليون دولار من قيمته السوقية في غضون ثلاثين دقيقة، يزعم أندي هالدين من بنك إنجلترا أنه على الرغم من إمكانية الربط بين ارتفاع رأسمال أسواق الأوراق المالية وبين التطور المالي والنمو الاقتصادي، فلا وجود لمثل هذه العلاقة بين رأسمال السوق والنمو.
فقد ارتفع رأسمال الأسواق المالية في الولايات المتحدة أربعة أضعاف في غضون الأعوام العشرة التي سبقت الأزمة. ولكن هل استفاد الاقتصاد الحقيقي من هذا؟ يستشهد هالدين بإحصائية مذهلة: ففي عام 1945، كان المستثمر المتوسط يحتفظ بالسهم الأمريكي المتوسط لمدة أربعة أعوام. وبحلول عام 2000، هبطت فترة الاحتفاظ إلى ثمانية أشهر؛ وبحلول عام 2008 أصبحت شهرين فقط.
ومن المرجح أن تستمر التحولات السريعة الدرامية التي أحدثها ارتفاع وتيرة التداول. فلم يمر سوى عشرة أعوام منذ هبطت سرعات التداول إلى أقل من ثانية واحدة؛ وهي الآن أسرع من طرفة عين. وتَعِد التطورات التكنولوجية بتداول أسرع حتى من ذلك في المستقبل القريب.
الواقع أن شركات التداول السريع تتحدث عن ''سباق إلى الصفر''، وهي النقطة التي يبلغ التداول عندها سرعة الضوء. تُرى هل ينبغي لنا أن نرحب بهذا الاتجاه؟ وهل يمنحنا التداول بسرعة الضوء سكينة السوق الحرة؟
الواقع أن الأدلة ملتبسة. فقد يبدو الأمر وكأن الفوارق بين العروض في انخفاض، وهو ما قد نعتبره إيجابيا. ولكن التقلبات ارتفعت، كما أصبحت احتمالات انتقال العدوى بين الأسواق أعظم. فعدم الاستقرار في إحدى الأسواق يمتد إلى أسواق أخرى.
وبالتالي فإن الدفاع التقليدي من جانب أسواق رأس المال في الولايات المتحدة، وأوروبا في واقع الأمر، لم يعد بديهياً كما كان يبدو ذات يوم. ويتعين على المشاركين في السوق أن ينخرطوا بشكل أكثر فعالية في الأجندة الجديدة، لا أن يفترضوا أن المزاعم الخاصة بزيادة ''كفاءة السوق'' ستكون لها الغلبة في النهاية. ومن دون الاستعانة بحجج أكثر تعقيدا، فقد تنتهي بهم الحال إلى الغرق تحت أكوام من أكياس الرمل التنظيمية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي