مَن هو نوبل؟ وما جائزته؟
<a href="mailto:[email protected]">sowayan_media@yahoo.com</a>
منذ نحو أسبوعين ودّعنا الأديب الراحل نجيب محفوظ الفائز بجائزة نوبل. وقد كتب الكثيرون عن نجيب محفوظ وحياته وأعماله. لكن القلة منا توقفوا ليتساءلوا مَن هو نوبل وما جائزته؟
ألفريد بيرنهارد نوبل Alfred Bernhard Nobel ثالث أبناء عمانويل نوبل مهندس كيميائي ولد في 21 تشرين الأول (أكتوبر) 1833 في مدينة ستوكهولم عاصمة السويد. أفلس الأب في العام نفسه الذي ولد فيه ألفريد واحترق منزل العائلة، فقرر في عام 1837 الارتحال إلى فنلندا للبحث عن فرصة أفضل للحياة له ولأسرته. ثم ارتحل في سنة 1842 إلى بطرسبرج St. Petersburgh عاصمة روسيا القيصرية وأنشأ هناك ورشة استطاع من خلالها أن يعقد صفقات مع الجيش الروسي لصناعة الألغام. نتج عن ذلك تحسن أحواله المادية فاستقدم عائلته عام 1842 للعيش معه. حقق الأب من عمله في حقل الألغام البحرية ثروة مكنته من توفير تعليم جيد لأبنائه الأربعة، خصوصا في الطبيعة والكيمياء والآداب واللغات.
ظهرت على ألفريد علامات النبوغ المبكر واهتم في بداية حياته بالأدب والشعر ولم يبلغ السابعة عشرة إلا وقد أتقن خمس لغات أوروبية. لكن والده لم يدخر جهدا لصرفه إلى الكيمياء والطبيعة وتطبيقاتهما في مجال المتفرقعات وبعَثَه في رحلات خارجية لتوسيع مداركه ولمتابعة مشاريع العائلة في أوروبا وأمريكا. وأثناء وجوده في باريس عمل مع الكيميائي الشهير البروفيسور بيلوز T. J. Pelouze في مختبره الكيميائي، وهناك تعرف على الكيميائي الإيطالي أسكانيو سوبريرو Ascanio Sobrero الذي كان قد اكتشف مادة النيتروجليسيرين nitroglycerine وهو سائل شديد الانفجار ويُعد النواة الأولى لصناعة المتفرقعات. ويتم إنتاج هذه المادة بمزج الجليسيرين مع الكبريت وحمض النترات. ومع أن قوة انفجار النيتروجليسيرين تفوق قوة انفجار البارود إلا أن العلماء رأوا أن لا فائدة ترجى من هذه المادة نظرا لخطورتها وقابليتها الشديدة للانفجار عند أدنى درجة من درجات الضغط أو الحرارة وبطريقة يصعب ضبطها أو التنبؤ بها. لكن ألفريد نوبل رأى إمكانية الاستفادة منها في الأعمال الإنشائية وتفجير الصخور، لكن لم يغب عن باله أيضا خطورتها الشديدة.
كانت الألغام البحرية التي وفرها عمانوئيل نوبل للجيش الروسي وزرعها الجيش في بحر البلطيق أثناء حرب القرم (1853-1856) هي التي وفرت الحماية لمدينة بطرسبرج ضد الجيوش البريطانية والفرنسية. ولقد قدرت روسيا ذلك لعمانويل ومنحه القيصر وسام الإمبراطور الذهبي. بعد انتهاء حرب القرم تقلصت نشاطات عمانويل التجارية حتى وصل إلى درجة الإفلاس مرة أخرى واضطر للعودة إلى ستوكهولم سنة 1859. بعد عودتهما إلى ستوكهولم بنى ألفريد مع والده مصنعا بالقرب من المدينة لتصنيع مادة النيتروجليسيرين. لكن مصنعه انفجر عام 1864 مما تسبب في مقتل إميل الأخ الأصغر لألفريد وأربعة من العاملين في المصنع. ولقد تأثر ألفريد بهذا الحادث الأليم فنذر حياته لترويض هذه المادة المفرقعة ليخضعها لمشيئة الإنسان ليتحكم فيها ويستفيد منها كما يشاء. أدت جهوده إلى اختراع الديناميت عام 1866 وذلك بمزج سائل النيتروجليسيرين مع السيليكا للحصول على معجون قابل للتشكيل على هيئة أصابع بالحجم والشكل المناسبين لإيلاجها في فتحات تحفر في الأماكن المراد تفجيرها. وكان لا بد لألفريد من أن يخترع أيضا فتيلة التفجير حتى يمكن تفجير الديناميت عن بُعد. ومما ضاعف من فائدة هذا الاختراع أنه تزامن مع اختراع آلات حفر عالية الكفاءة ساعدت هي والديناميت على خفض تكلفة الحفر وتفجير الصخور. وحيث إن ألفريد نوبل يملك براءة اختراع الديناميت فقد تهافتت على شرائه منه شركات البناء والمناجم والقوات المسلحة، فانتشر استخدامه في أنحاء العالم. هذا شجع ألفريد على بناء المصانع في عشرين دولة وجنى من وراء ذلك ثروة ضخمة وأصبح من أغنى أغنياء العالم. ومما أسهم في مضاعفة ثروته حنكته البالغة في إدارة استثماراته.
وقد شنت الصحافة الأوروبية هجوما عنيفا على نوبل ولقبته "صانع الموت" و"ملك المتفجرات". وقد بدأت حملة التشهير ضده عام 1888 حينما نشرت جريدة فرنسية نعيه بطريق الخطأ وعنونته "مات ملك الموت"، وقالت عنه إنه كوّن ثروته عن طريق البحث باستمرار ودون كلل عن طرق جديدة لقتل البشر. لذا قرر أن يدشن حملة إعلامية لتحسين صورته وتبرئة ساحته من تلك التهم. فصور نفسه على أنه رجل محب للسلام، وأنه حينما اخترع الديناميت كان يرى فيه الأمل لرخاء البشرية عن طريق حفر المناجم واستخراج كنوز الأرض، إضافة إلى حفر الأنفاق وشق القنوات والطرق التي سهلت عمليات التواصل والتبادل التجاري بين الأمم. لكن الكثير من الناس لم ينسوا أن ألفريد ووالده وجميع أفراد أسرته لم يكوّنوا ثرواتهم الطائلة إلا من خلال بناء المصانع التي أبرمت الصفقات والعقود مع الجيوش ومصانع الأسلحة لبيعهم مختلف أنواع المتفجرات.
لم يتزوج ألفريد نوبل وعاش وحيدا وعليلا يغلب عليه الخجل. وحينما بلغ الثالثة والأربعين وأحس بتقدمه في السن نشر إعلانا في إحدى الجرائد يقول: "رجل ثري عالي الثقافة متقدم في السن يبحث عن سيدة ناضجة تجيد اللغات لتعمل معه سكرتيرة ومشرفة منزل". فتقدمت له الكونتيسة النمساوية بيرثا كينسكي Bertha Kinsky التي عملت معه لفترة قصيرة ثم تركته لتتزوج من الكونت آرثر فون ستنر Arthur von Suttner. لكن نوبل استمر يتراسل مع بيرثا ولم تنقطع صلتهما. وبمرور السنين تحولت بيرثا لتصبح من أشهر دعاة السلام في العالم وأكبر المعارضين للحروب وسباق التسلح. وفي حواراته المستمرة معها كتب لها مرة يؤكد أهمية الردع في درء أخطار الحروب، ويقول لها: "قد تكون مصانعي أقدر من برلماناتكم على إنهاء الحروب. ففي اليوم الذي يستطيع فيه جيشان متقابلان الحصول على ما يقضي به أحدهما على الآخر في لحظة عين فإن الأمم المتحضرة حينها سوف تتراجع أمام هذا الرعب المفزع وتقرر تسريح جيوشها". وقد تأثر نوبل بأفكار بيرثا وربما أن هذا من الأسباب التي شجعته على التفكير في جائزته للسلام التي قُدّر لبيرثا أن تفوز بها بعد موته بتسع سنوات على كتابها "ألقُوا أسلحتكم" Lay Down Your Arms.
توفي نوبل في 1896 بعدما سجل باسمه ما لا يقل عن 355 براءة اختراع. والكثير من الشركات التي أسسها أصبحت مؤسسات صناعية عملاقة تلعب دورا مؤثرا في الاقتصاد العالمي منها: Imperial Chemical Industries (ICI) في بريطانيا وSocietie Central de Dynamite في فرنسا وDyno Indudtries في هولندا. وفي آخر أيامه كان قد قرر أن يهب بعض ثروته لكل من يسهم في إسعاد الإنسانية وتحقيق السلام العالمي، وأن يؤسس ما أصبح يسمى جائزة نوبل التي تُعد من أقدم الجوائز العالمية وأشهرها وأكبرها قيمة، ماديا ومعنويا. ولتحقيق هذا الغرض أوصى قبل وفاته باستثمار 30 مليون كرونة سويدية من ثروته في مشاريع ربحية يتم من ريعها منح خمس جوائز سنوية باسمه لأكثر من أفاد البشرية في مجالات الكيمياء والفيزياء والطب والفسيولوجيا والأدب والسلام العالمي. وتنص بنود وصية نوبل على أن تسلم جائزة السلام في قاعة مجلس مدينة أوسلو النرويجية (التي انبثقت منها اتفاقية أوسلو للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين). أما جوائز الطب والكيمياء والطبيعة والأدب فيتم تسليمها في صالة الاحتفالات الموسيقية في ستوكهولم التي تتسع لألف وثلاثمائة شخص بحضور العائلة المالكة السويدية وممثلي الحكومة السويدية وأعضاء البرلمان ولفيف من السياسيين والدبلوماسيين وعائلات الفائزين بالجائزة. ويشرف ملك السويد على تسليم الجائزة. وقد سلمت أول جائزة في 10 كانون الأول (ديسمبر) من عام 1901، يوم ذكرى وفاة ألفريد نوبل.
تصور ألفريد نوبل أنه باختراع الديناميت أسهم في إسعاد البشرية، لكن تبين خطأ تصوره حينما شاع استخدام الديناميت على نطاق واسع في الحروب. وهذا يذكرنا بما حدث لأينشتاين بعد اكتشافه تجزئة الذرة. حصل أينشتاين على جائزة نوبل عام 1921 على نظريته في النسبية التي أدت إلى تجزئة الذرة، وفي 1933 أصدر مع سيجموند فرويد كتابهما "لِمَ الحرب؟"، وعمل طوال حياته ناشطا معارضا للحروب.
خشية نوبل وأينشتاين أن اكتشافاتهما قد يُساء استخدامها وتُستغل لغايات غير شريفة لم تدفعهما إلى الكف عن البحث وإلى التوقف تطبيقا لمبدأ سد الذرائع ودرء الشبهات. جميع الاختراعات والأفكار النافعة يمكن أن يُساء استخدامها، فالدواء الذي يشفي المريض يمكن أن يلجأ له يائس يريد الانتحار. اجتثاث نوازع الشر من النفس البشرية هو الحل وليس تعطيل العقل وإيقافه عن البحث والاستكشاف والتساؤل وتحصيل المعرفة وغير ذلك من الوظائف التي أرادها له الله. العقل يستحيل أصلا إيقافه ومنعه من التفكير والمشكلة ليست في الحقائق والمعارف التي يتوصل إليها العقل وإنما في نزعة الإنسان نحو توظيف هذه المعارف لزرع الشرور واستغلال أخيه الإنسان وتدميره، وبذلك يتحول العلم من وسيلة لإسعاد البشرية إلى آلة شر تزرع البؤس والشقاء. الدرس الآخر المستخلص من هذا كله هو أن ألفريد نوبل تعامل مع تأنيب الضمير والشعور بالذنب تعاملا حضاريا، فهو لم يكتف فقط بالحوقلة والاستغفار وبناء دور العبادة وتعليق لافتة على مكتبه تقول: هذا من فضل ربي، بل عمل عملا يفيد أخاه الإنسان في هذه الدنيا ويسهم في تقدم العلم وتطور البشرية ويذكره له الجميع بالخير. يا حبذا لو أن أثرياء العرب والمسلمين يتلقنون هذا الدرس العظيم.