في أن الخلاف هو الأصل وأن الوحدة استثناء
الثقافة في معناها الضيق هي مجموع المعارف التي يتلقاها الفرد بشكل نظامي، من خلال القراءة والنقاش والتفكير... إلخ. ولذا يطلقون صفة ''المثقف'' على شريحة من الأشخاص المهتمين بالمعرفة والممارسين لها بصورة منتظمة، ولا سيما من خلال القراءة والنقاش.
أما المعنى الموسع للثقافة فيشمل مجموع التجارب الفردية والجمعية التي شارك فيها الفرد مباشرة أو تلقاها على شكل مستخلصات مشروحة أو رمزية. وهي تشمل التجارب المعرفية والفنية والحياتية والروحية، كما تشمل أشكال المعاناة والفرح. ويعبر عن الثقافة من خلال اللغة وطرق الكلام أو في إطار الفعل والممارسة الحياتية اليومية والتقاليد الاجتماعية. الثقافة في هذا المعنى هي الخلفية الذهنية المسؤولة عن 90 في المائة على الأقل من أفعال الإنسان الاعتيادية، ولا سيما أفعاله العفوية.
رؤية الإنسان لنفسه وللعالم من حوله، رؤيته لموقعه في هذا العالم، وتعامله مع الآخرين، هي ــــ إلى حد كبير ــــ ثمرة لخلفيته الذهنية، أو ــــ بحسب تعبير أستاذنا إبراهيم البليهي ـــ البرمجة الذهنية. حقيقة الأمر أنه لا يوجد إنسان في العالم إلا وهو مبرمج على نحو ما. قليل من الناس يساهم هو في برمجة نفسه وتحديد مكونات ذهنيته. أما الأكثرية الساحقة من البشر فإن ذهنيتها تتشكل في حالة اللاوعي.
لا يعيش الإنسان في فراغ، فهو أشبه بسمكة في بحر، يتأثر بتيارات هذا البحر وبالاختلافات الفيزيائية للماء والأشياء السابحة أو الهائمة فيه وحواليه. الكلام والأصوات التي يسمعها الفرد، والمشاهد التي يراها، والألوان التي يميزها، والخواطر التي تراود ذهنه، والمخاوف التي تنتابه، ومشاعر الفرح والأسى التي تعتمل في داخله، أشواقه وأمانيه ورغباته، كلها تسهم في تشكيل ذهنيته، أي تصوره عن نفسه وعن العالم. نادرا ما يتحكم الإنسان في هذه المصادر أو في تأثيرها عليه، فهي تحدث أمامه أو في داخله دون أن تستأذنه، وهي تتفاعل مع نفسه، مع عقله وقلبه، سواء أحبها أو كرهها. محبة الأشياء وكره الأشياء، إرادته لها أو عجزه عنها، تسهم أيضا في تشكيل ذهنيته.
هذا يفسر لنا اختلاف آراء الناس بحسب انتماءاتهم الاثنية والثقافية وإطاراتهم الاجتماعية ومواقعهم ومهنهم. لو كنت رجل دين فسوف تكون لغتك وإطار علاقاتك الاجتماعية وهمومك مختلفة عن الطبيب والمهندس. ولو كنت عربيا فستكون مختلفا على الأرجح عن الأمريكي والياباني، ولو كنتِ امرأة فانشغالاتكِ ونطاق علاقاتكِ ستكون بالتأكيد مختلفة عن الرجال.
هل يكفي هذا للقول: إن اختلاف الناس هو الظرف الطبيعي؟ هل يكفي هذا لتبرير الدعوة إلى حرية التفكير وحرية التعبير؟ هل نقول: إن التسامح لا يعني فقط اللين في التعامل مع الآخرين، بل يعني تحديدا الإيمان بأن لهم الحق في أن يختلفوا عنك مثلما أنت ــــ بطبيعتك ـــ مختلف عنهم؟