من غزة إلى أين؟

لعل أكثر الكلمات التي سمعتها، حكمة عن حرب غزة الثانية، جاءت على لسان مواطن إسرائيلي يعيش في كيبوتز (مزرعة جماعية يهودية) بالقرب من حدود غزة، ودونها ميشال فاسر في صحيفة ''هآرتس'' في 15 تشرين الثاني (نوفمبر): ''إذا كنت تريد الدفاع عني.. فلا ترسل قوات الدفاع الإسرائيلية إلينا كي تسجل نصراً شخصيا. بل عليك أن تبدأ في التفكير في الأمد البعيد، وليس فقط في الانتخابات القادمة. عليك أن تستمر في التفاوض إلى أن يخرج الدخان الأبيض من المدخنة (إشارة قديمة إلى التوصل إلى اتفاق). وعليك أن تمد يدك إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وأن تكف عن ممارسة الاغتيالات الجراحية، وأن تنظر إلى أعين المدنيين على الجانب الآخر أيضا''.
إن فرص التوصل إلى تسوية شاملة ودائمة تقوم على مبدأ الدولتين، التي يجري التفاوض عليها الآن مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية تحت رئاسة محمود عباس - واحتمالات قبولها ولو على مضض من قِبَل حماس في غزة بعد استفتاء شعبي - ربما أصبحت ضئيلة للغاية وفي تراجع مستمر. ولكن البديل الوحيد هو الدخول في حلقة مفرغة من أعمال العنف القاتل بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
تتلخص الأولوية العاجلة الآن في تهدئة الأوضاع في غزة والحفاظ على الاستقرار هناك. ولكن إذا كانت الرغبة متوافرة في تجنب تكرار انفجار الموقف، فيتعين على صناع القرار السياسي في إسرائيل أن يطرحوا على أنفسهم بعض الأسئلة الجوهرية. كما يتعين على أشد أنصار إسرائيل حماسا، في الولايات المتحدة وغيرها (مثل بلدي أستراليا)، أن يفعلوا الشيء نفسه.
كيف نعزز السلام إذا كان القضاء على حماس أو إضعاف قدراتها بشكل جذري من شأنه أن يترك غزة بين أيدي جماعات أكثر تشدداً وولعاً بالقتال، ويمنح الإسلاميين في مختلف أنحاء المنطقة أداة جديدة للتجنيد؟
كيف نخدم أمن إسرائيل القومي إذا كنا بتحركاتنا في غزة، وتقاعسنا عن العمل على الأرض مع عباس، نعرض للخطر معاهدات السلام التي تم التوصل إليها بشق الأنفس قبل مدة طويلة مع مصر والأردن (وكل من الدولتين تبدو الآن هشة للغاية في أعقاب الربيع العربي)؟
كيف نترك للزعيمين الفلسطينيين المفضلين لدى إسرائيل، عباس ورئيس وزراء السلطة الفلسطينية سلام فياض، أي حيز للقدرة على التفاوض، إذا كانت المحادثات كما تصر إسرائيل من غير الممكن أن تبدأ ما لم يتراجعا عن شرطهما (الذي يشكل الحد الأدنى) بتجميد بناء المستوطنات في المناطق المحتلة؟
السؤال الآخر الكبير الموجه إلى إسرائيل هو ما إذا كانت قادرة على تحمل العواقب المترتبة على اختفاء حل الدولتين بالكامل من الأجندة. إن إسرائيل، كما حَذَّر مؤسسها ديفيد بن جوريون، بوسعها أن تكون دولة يهودية، وبوسعها أن تكون دولة ديمقراطية، وبوسعها أن تكون دولة محتلة لكل مساحة إسرائيل التاريخية؛ ولكن من غير الممكن أن تكون كل الدول الثلاث في الوقت ذاته.
وفي حين لا يزال الدخان يتصاعد من غزة، فإن سؤالاً آخر بالغ الإلحاح يطرح نفسه: ما الذي يفترض أن تكسبه إسرائيل وأنصارها من هذه المقاومة المريرة لصدور قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بالاعتراف بفلسطين ''كدولة مراقبة'' غير عضو (ذات وضع أشبه بوضع الفاتيكان)، وهو القرار الذي يبدو التقدم بطلب بشأنه وتمريره الآن وشيكا، وبأغلبية دولية كبيرة، في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) أو في موعد قريب من ذلك التاريخ؟
كانت إقامة الدولة الفلسطينية دوماً شرطاً أساسياً لا غنى عنه لضمان سلام إسرائيل وأمنها في المدى البعيد، وإنه لمن مصلحة إسرائيل بشكل واضح أن يتم نزع فتيل القضية وليس تأجيجها. والآن أصبحت هذه الحاجة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى في ضوء الواقع الجديد للقوة في المنطقة.
بطبيعة الحال، كي توضع على الطاولة خطة للتسوية الشاملة تعالج قضايا الوضع النهائي كافة، إلى جانب التنازلات التي يمكن إقناع كل الأطراف والضغط عليهم لقبولها، فإن الأمر يتطلب حنكة رجال الدولة. ولكن من المؤسف أن هذه الخاصية كانت غائبة بشكل مؤلم عن دبلوماسية الشرق الأوسط منذ أمد بعيد.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2012.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي