"الملك الثاني" .. رؤية وتاريخ

[email protected]

في افتتاح الندوة العلمية عن تاريخ الملك سعود، قال الأمير سلمان بن عبد العزيز: (ما أجمل التاريخ وما أدق من وثائقه). بهذه العبارة أطلق المبادرة المهمة في التوثيق التاريخي للدولة السعودية، وكلمة "إنجاز" أقل ما يمكن أن توصف به مبادرة دارة الملك عبد العزيز في تنظيم أعمال التوثيق، التي ألحقتها أيضاً بمعرض للصور عن الملك الثاني في تاريخ الدولة السعودية الحديثة.

إننا كمواطنين سعوديين، ننتظر بلهفة شديدة أن يتم رصد وتنقيح جميع الدراسات التي قدمتها المؤسسات العلمية والباحثين لسيرة الملك سعود، والوثائق ميزان عدل تنظر إلى التاريخ بتجرد وشفافية، ويقيني أن الدراسات والبحوث العلمية، ستذهب إلى التأكيد أن الملك سعود هو مؤسس ومنظم الحوكمة في الدولة الحديثة.

حيث أضيف إلى المكتبة السعودية المؤلف الرائع للأمير الدكتور سلمان بن سعود، الذي سرد فيه الوثائق والوقائع لتأريخ فترة تعتبر من أهم الفترات الزمنية في تاريخ الدولة السعودية الثالثة، وهي الفترة الواقعة مابين 1373 و 1384هـ، التي تلت وفاة الملك المؤسس الملك عبد العزيز - رحمه الله، وما شهدت المنطقة العربية من ظروف وملابسات من القومية ومحاربة الاستعمار وانعكاسه على الأنظمة الملكية، وسيطلع الباحث خصوصاً على ميكانيكية النظام السعودي واستمراريته وتواصله، على نحو هادئ ورصين، بدءاً من الملك عبد العزيز، مروراً بالملك سعود، والملك فيصل، والملك خالد، والملك فهد، وأخيراً الملك عبد الله.

وإذا نظرنا إلى كل المناقشات السابقة وفي إطار أسلوب تحليلاتها، نرى أنها فشلت في نقل تصوير واقعي وموضوعي للنظام الملكي السعودي، لأسباب عدة (الأول) أن الافتراضات الغربية المبنية على أهمية البترول لتفسير استقرار النظام السعودي لم يستطع أن يلامس معناه الحقيقي؟ حيث الحقيقة أن تلاحم العقيدة الإسلامية مع الحكم السعودي، هو الذي أوقف حالة التشتت والفوضى السياسية التي شهدتها الجزيرة العربية (ثانياً) ضعف المعلومات عن الملامح الأساسية لنظام الحكم السعودي انتهت أخيراً بعد صدور النظام الأساسي للحكم ونظام البيعة .

وبعودة إلى تاريخ "أبو خيرين" نرى اليوم" التاريخ " منصفا عهده مستنداً بذلك إلى وثائق وجملة من القرارات المصيرية، فمنذ إنشاء مجلس الوزراء، الذي يعتبر نقطة انطلاق حيوية انعكست إيجاباً على وتيرة التنمية والتنظيم الإداري في السعودية، بل هي الخطوة التي مثلت نقطة التحول في تاريخ التنظيم الإداري في السعودية، حيث الانتقال من نظام إداري متعدد حسب عدد الأقاليم والنشاطات التي تمارسها الوزارات والأجهزة الحكومية المستقلة، إلى نظام إداري موحد تشرف عليه سلطة عليا متمثلة في مجلس الوزراء.

إذاً بالتوثيق التاريخي، يعتبر الملك سعود أول من وضع لبنات منهج (الإصلاح) و(التطور)، ويكفي التدليل على أن تشكيل أول مجلس للوزراء في عام 1373هـ (1953م)، الذي كان برئاسته حينما كان ولياً للعهد وضم عضوية وزراء الدولة الموجودين فعلا وقت صدور المرسوم الملكي، وقبل إنشاء ذلك المجلس كان هناك عدد من الوزارات مثل: الخارجية، المالية، الدفاع، الداخلية، الصحة، المعارف، الزراعة، التجارة، والمواصلات، إضافة إلى بعض المديريات التي تحولت في أوقات لاحقة إلى وزارات منها: مديرية الزيت والمعادن، ومديرية العمل والعمال.

واستناداً إلى تحليل الوثائق التاريخية، يتضح جلياً أنّ الملك سعود وضع لنفسه أهدافاً أربعة وطن نفسه على تحقيقها على الصعيد الداخلي في السعودية، (الأول) تنظيم هيكل العمل الحكومي، (الثاني) تنظيم مؤسسات القضاء الشرعي، (الثالث) الإصلاح الاجتماعي والقضاء على تجارة الرقيق، (الرابع) بناء القوة العسكرية للبلاد.

وشكّلت هذه الأهداف الأربعة إطاراً عاماً لأهم الإنجازات التي شهدها عهد الملك سعود في مختلف مراحله، ففي تنظيم العمل الحكومي، أصدر - رحمه الله - عام 1373هـ سلسلة من الأوامر والمراسيم واضعاً مجلس الوزراء على نحو أشمل وأكثر تفصيلاً، ثم توسع تحديثاً عام 1377هـ، وارتفع عدد الوزارات في عهده إلى ثلاث عشرة وزارة بعد أن كانت ستا في عهد الملك عبد العزيز. وفي مجال القضاء حرص الملك سعود على تنظيم مؤسستها فقام بإنشاء دار الإفتاء عام 1373هـ، ثم إنشاء ديوان المظالم عام 1374هـ، وشهدت المحاكم الشرعية في عهده توسعاً ملحوظاً في كافة المناطق.

بيد أن الإصلاح الاجتماعي استقطع جهداً كبيراً ليكمل ما بدأه والده المؤسس، فحقق لأهل الحجاز مطالبهم بتعليم المرأة، إذ نشرت صحيفة "صوت الحجاز" مطالبهم سنة 1353هـ، وتحول فيما بعد إلى قرار ملكي أصدره عام 1379هـ بفتح مدراس للبنات لتعليم العلوم الشرعية، كما أمر بتشكل لجنة عام 1380هـ لإلغاء نظام الرق، الذي صدر بعد ذلك من مجلس الوزراء عام 1382هـ.

ويمكن الاستشهاد بوثيقة الخطاب الملكي لفهم أبعاد النظرة التي كان الملك سعود بن عبد العزيز يؤمن بها في توجهاته وبرنامجه الإصلاحي، إذ قال في خطبة الجمعة التي تقدم بها المصلين في صلاة الجمعة في دولة باكستان في زيارتها في شعبان عام 1373هـ: (إنّ المسلمين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه يوم قادوا أمم الدنيا، ونشروا العدل والسلام والحق بين الشعوب إلاّ بالعقيدة والصدق والإخلاص ونكران الذات والتضحية في سبيل كلمة المسلمين).

والباحث لعهد الملك سعود، لا بد أن يتطرق إلى فكره السياسي، فعهده تزامن مع تفجر ثورة القوميات خصوصاً العربية، ليجد أنه واحد من الزعماء الذين كرسوا أهمية التعاون ووحدة الصف، وهذا نجده تحت عنوان مفهوم التضامن الإسلامي ومركزاته عند الملك سعود، وكانت تمثل جزءاً كبيراً من مكونات الفكر السياسي والإسلامي، حتى أنّ الباحث عن تاريخه لا يكاد يجد حديثاً، أو مقابلة، أو خطاباً عاماً للملك سعود، قد خلا من طرح تلك الفكرة، وإثارتها والإلحاح عليها بصورة أو بأخرى.

تاريخياً وفي أصعب المواقف السياسية ظهر لنا دور الملك سعود ودفاعه عن فلسطين ووقوفه مع مصر لمّا تعرّضت للعدوان الثلاثي (1956م) ودوره في قيام جامعة الدول العربية لتوحيد الموقف العربي في وجه الاستعمار وسلب خيرات الأقطار العربية، ويذكر أحد الشواهد وهي جمع التبرعات لدعم الثورة الجزائرية عام 1376هـ وكيف استمر الدعم الشعبي حتى تحرّرت الجزائر عام 1962م.

لقد وثق كتاب " الملك سعود الوثائق ... والتاريخ" المنظور الأدق والأعمق عن كيفية إدارة الأحداث وأزمات تلك الفترة المهمة، بعنوان "إدارة أزمات سنوات الغليان وتفاعلاتها": رؤية تحليلية للدوائر الخمس:
1 - الملك سعود ودوره في تعظيم ناتج التنازع والتحالف في إدارة أزمة 1956م.
2 - رؤية الملك سعود لخطر المشروع الصهيوني عربياً ودولياً.
3 - دور الملك سعود في دعم المثلث الاستراتيجي للأُمّة العربية والإسلامية.
4 - الملك سعود وإدارة تفاعلات المساعي الحميدة والوساطات والدعم الدبلوماسي والعسكري في سنوات الغليان.
5 - الملك سعود وإدارة تفاعلات النفط والسياسة: رؤية من الماضي للمستقبل.

ختاماً نرى إن الإصلاحات الإدارية والتطوُّر الاقتصادي انطلق في عهد الملك سعود وهو مؤسس الإصلاحات الإدارية للدولة السعودية الثالثة: (تنظيم العمل الحكومي - المؤسسات العامة - تنظيم أجهزة الرقابة - تنظيم حركة التنمية والإدارة المحلية)، وكذلك التطوُّر الاقتصادي: البترول والمعادن، الصناعة، الزراعة، النقد، سوق العمل، التجارة، المواصلات، والاتصالات. في محور التعليم نلاحظ اهتمام الملك سعود بالتعليم خلال فترة ولاية العهد ثم في فترة حكمه، ثم قوله (وأمرنا بفتح مدارس للبنات، ومما أثلج صدورنا ما شاهدناه من إقبال على تلك المدارس، ووجّهنا التعليم الوجهة الصحيحة النافعة التي تتفق مع مبادئنا ومتطلَّبات نهضتنا الصناعية الزراعية والعمرانية). يبقى القول إننا بحاجة إلى دراسات أخرى للعهد السعودي الحديث، ونتمنى أن تكون في القريب العاجل!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي