التأمين ومحاربة الفساد
دأبت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (نزاهة) في الآونة الأخيرة على نشر ملاحظاتها حول تأخر تنفيذ المشروعات الحكومية المعتمدة، واعتبرت ذلك ضمن الصلاحيات الموكلة إليها في محاربة الفساد في الجهات الحكومية.
وبغض النظر عن الأسباب، التي أدت إلى وجود حالات التأخير هذه، إلا أن إدخالها ضمن دائرة عمل الهيئة أدى إلى تسليط الأضواء عليها، وأصبحت محل اهتمام الكثير من المعنيين والمتابعين لعمل الهيئة.
وبالرغم من أهمية الدور الذي يؤديه التأمين في دعم الجهود الهادفة إلى محاربة الفساد، إلا أنني سأقصر حديثي عن أهمية هذا الدور في مكافحة الفساد الذي يمكن أن يحصل في المشاريع الحكومية وتحديداً في قطاع الإنشاءات، فوفقاً لما هو معمول به نظاماً، فإن هناك تأمينا إلزاميا على المقاول في حالة رسو المزاد عليه، فالمقاول ملزم بإبرام وثيقة المسؤولية لصالح الجهة الحكومية المالكة للمشروع. وهذه الوثيقة يجب أن تتضمن النص على تعويض الجهة الحكومية مالياً في حالة عدم إنجاز المشروع، وفق المواصفات المتفق عليها أو في حالة التأخر في تسليم المشروع أو في إنجازه. فالمفترض هنا هو أنه لو تم تفعيل وثيقة التأمين بالشكل المطلوب، فإن الرقابة على المقاول ستكون من شركة التأمين. كما أن الأضرار التي تترتب على عدم إنجاز المشروع أو عدم تسليمه في الوقت المناسب ستتحملها شركة التأمين. فهذا التأمين الإلزامي يجب أن يقود إلى نتيجة منطقية ومسلم بها، وهي أن شركة التأمين ستضع شروطها الصارمة على المقاول لتقبل بالتأمين على المشروع الحكومي، ومن ثم ستراقب تنفيذ المقاول للمشروع لضمان عدم تأخره أو ضمان تنفيذه وفقاً للمواصفات المطلوبة. وهذه من وجهة نظري تعد أكبر ضمانة لتجنب الفساد المرتبط بتنفيذ المشروعات الحكومية. وهذا لا يتطلب من هيئة مكافحة الفساد سوى الرقابة على تفعيل وثائق التأمين الإلزامية لدى الجهات الحكومية على مشروعاتها الإنشائية والرقابة على البنود التي ينبغي أن تتضمنها هذه الوثائق، ثم بعد ذلك الرقابة على الجهات الحكومية بخصوص مدى تمسكها بهذه الوثائق وتمسكها كذلك بمطالبة شركات التأمين بالتعويضات اللازمة في حال وجود تأخير أو سوء في التنفيذ.
والشيء الذي يحز في النفس هو أن وثائق التأمين الإلزامي على المشروعات الحكومية المعمول بها في المملكة أصبح ينظر إليها كمستند شكلي يلزم على المقاول القيام به من أجل استكمال أوراق المناقصة وصرف مستحقاته فيما بعد. وهو في الغالب يبقى حبيسا لأدراج موظفي الجهات الحكومية لا أحد يعرف الغاية من وجوده ولا أهميته بالنسبة للجهة التي تم عمله من أجلها. ولأن شركات التأمين تدرك عدم معرفة موظفي هذه الجهات الحكومية بأهمية وثيقة التأمين وأهمية بنودها، ولأنها تعلم علم اليقين بأنها في مأمن من أي مطالبة حكومية فهي تقوم بإعداد وثائق تأمين شكلية وبشكل روتيني وتتساهل في الرقابة على المقاول. كما أنها تضع شروطا في هذه الوثيقة الهدف منها إضعاف الحماية التأمينية للجهة الحكومية مما يهيئ لها الفرصة في التملص فيما بعد من أية تعويضات في حال وجود مطالبة حكومية في المستقبل.
وفي المقابل، فلو عرفت شركات التأمين أن هناك من سيطالبها، فإنها ستشدد في شروطها في مواجهة المقاول وستراقب حسن تنفيذ المقاول للمشروع وسيخشى المقاول من هذه الرقابة مثلما يخشى من الجهة الحكومية صاحبة المشروع، بل وستكون هناك قائمة سوداء لدى شركات التأمين بالمقاولين السيئين وسترتفع أسعار التأمين عليهم وستقل حظوظهم في الحصول على المشاريع الحكومية. نحتاج فقط إلى معرفة عناصر تركيب هذه المعادلة والتعامل مع مكوناتها بذكاء.