ودي أصدق سلمان العودة

كانت لدي حساسية دائمة من أولئك الذين يحاولون أن يؤثروا في الرأي العام من خلال استغلال نقاط الاختلاف أو الأحداث الجارية لتحقيق مآرب شخصية. إن القناعة التي لا بد أن تنطلق منها كل عبارات التنبيه أو التوجيه أو النصح، هي الإيثار على الذات والعمل لما يحقق مصلحة المجموع بغض النظر عن المكونات المنفردة في المجتمع أو الفئات المفضلة، لأن ذلك كله عبارة عن وصفة دمار وخراب. فهتلر أتى من مفهوم مختل وانتهى به المطاف ليدمر دولة وتاريخاً ومكونات ومكتسبات بذلت الأمة في بنائها قروناً.
لهذا أنظر بحذر لكل دعوة تنطلق هنا أو هناك للتغيير خصوصاً تلك التي تصدر من النوابغ والفلاسفة والعلماء الذين يشهد لهم الجميع بالتبحر في العلم والاطلاع والتنظير. هؤلاء يستطيعون أن يثيروا الرأي العام ويوجهوه بطريقة احترافية ذكية لتحقيق مآرب محددة كمنظرين وموجهين للمستقبل. أذكر على سبيل المثال منظرين مثل ميشيل عفلق، وعالمياً ماركس وروزنبرج، هؤلاء وجهوا السياسات العامة للدول حسب مناظيرهم الشخصية التي لم تكن مبنية على نجاحات تاريخية أو تطبيق واقعي يأخذ الطبيعة البشرية في الاعتبار، وإنما على غرور شخصي منبعه تميزهم الذهني عن المجموع.
لست بصدد الحديث عن سيرة وتاريخ ''الشيخ'' سلمان العودة وهو المعروف بدعمه الشديد للقاعدة في مرحلة كانت فيها تنفذ عمليات تفجير داخل المملكة مثل تفجير العليا، فعلم الجميع خطرها بعد أن فقدت توازنها وأصبحت تنفذ عملياتها بشكل لا يراعي الصالح العام، وأهمية حماية أصحاب الذمة ومصالح الدولة. نعم كان الجميع يدعم القاعدة في مرحلة معينة، وكان هذا مُبرَّرَاً لأنها تحارب لحماية الإسلام والمسلمين، لكن هذا لم يكن ممكناً أن يستمر بعد أن اختلطت الأوراق وتخبطت هذه المنظمة وفقدت هويتها التي انطلقت منها.
ولست بصدد مناقشة كيف تحول مفهوم الشيخ بعد فترة ليست بالطويلة نحو دعم مفاهيم معارضة تماماً لتوجهه الأصل، لأن هذا قد يكون مما يعتبر عودة إلى الحق والعودة إلى الحق خير من التمادي في الباطل وهو ما حقق للشيخ قبولاً كبيراً في جميع الأوساط الاجتماعية والثقافية في المملكة، ألف خلالها كتباً تعد من المفيد الذي يهتم الكثير باقتنائه، لكن الكتابة كما يعلم الجميع لا تؤكل عيشاً في بلد لا يجذب القارئ فيه سوى المختلف والمتناقض.
كما أنني لن أدعي أن لي الحق في مناقشة وتقويم التوجه الثالث للشيخ عندما اتخذ من الإخوان المسلمين جماعة يتبعهم ومفهوماً يروج له، فأصبح عضواً في هيئة علماء المسلمين. لأنه الوحيد الذي يستطيع أن يبرر كيف تحول من الفكر السلفي ''المتشدد'' أوائل التسعينيات إلى الفكر الإخواني ''المتسلق'' في الألفية الثالثة.
لن أناقش فترة أخرى مختلفة تماماً كان عنوانها التسامح والعفو والمحبة والإخاء التي توجها ببرنامج تلفزيوني على قناة mbc، التي كان ألد أعدائها في يوم من الأيام، وقد أبدع فيها الشيخ وحاز إعجاب الجمهور وانتقل إلى صفِّه كثيرون ممن كانوا في الجهة المقابلة.
كما لن أدخل في قضية ما سمي بـ ''ثورة حنين'' التي وقف ضدها الشعب السعودي ــــ بأغلبية عجيبة ـــ لم يكن أي من منظمي هذه الفكرة الشاذة يتوقعها خصوصاً إيران وأعوانها. في الأثناء كان الشيخ يدعم فكرة القيام على الدولة، وهو الأمر الذي أفقده الكثير من مريديه، بل إنه اضطر للخروج من البلاد، من هول المفاجأة والرفض اللذين واجههما، ''وهذا توقع مني''.
كما سأتحاشى الدخول في مؤتمرات النهضة التي كانت تختار من بين المتقدمين مجموعات من الشباب والشابات الذين لا تتجاوز أعمارهم 25 سنة، ويحملون نظرة سلبية تجاه الدولة أو الحكومة أو الشعب بالتركيز على أبناء السجناء أو من كانوا على عداء مع غالبية الشعب بميولهم المخالفة والمتقاطعة مع أخلاقيات ومبادئ المجتمع السائدة. بل ولن أناقش نوعية المفكرين الذين كانوا ينظِّرون لهؤلاء الشباب والشابات في تلك المؤتمرات من قبل عزمي بشارة.
ما أريد أن أدخل فيه هو ضرورة أن يقرأ المتلقي الرسائل التي تأتي من أشخاص أو جهات، أن يقرأ تلك الرسائل بعناية وحرص بربطهما بمنشئ الرسالة وتاريخه والفواصل الزمنية والقِيَمية التي مر بها فكره. الهدف الأساس من التمعن في قراءة الرسائل وربطها بمطلقها هو معرفة من أين يأتي الرجل، وما هو هدفه في هذه المرحلة بالذات، ولن أرسم لأي شخص النتيجة التي يمكن أن يصل إليها، لكننا سنتفق في النهاية على الاستقبال الواعي للرسائل، وتفكيك محتواها بعقلانية بعيداً عن التعصب الأعمى الذي شاهدته من أحدهم عندما اعترضت على إحدى تغريدات الشيخ، حيث لم يكن منه إلا أن خرج من دائرة متابعي دون أن يحاورني.
أعد نفسي ضئيلاً عندما أتكلم عن رجل مثل الشيخ سلمان العودة، وهو بهذا القدر من الذكاء والدهاء السياسي، لكنني أجد ضرورة التركيز على فحوى الرسائل وتفكيك رموزها، وربطها بمؤشرات أخرى في المنطقة اليوم، وأستغرب كيف استطاع الشيخ سلمان العودة أن يطلق رسالته ونحن نعيش فترة عدم توازن كبير في جماعة ''الإخوان المسلمين''، في مصر وتونس. فترة تشهد انتشار العداء والرفض للفكر الإخواني، وهو الرفض نفسه الذي انتشر في المملكة أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. نحن لا نتقبل الفكر الإخواني لأنه أثبت فشله عندنا، ولا يزال يثبت فشله إلى اليوم في مصر بعد أن أخرجهم الله من السجن ومكَّن لهم في الأرض. فلا تتوقع أن نستقبل الرسائل ونصدقها بهذه السهولة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي