رؤية الرئيس الإندونيسي السابق

التقيت لأول مرة الرئيس الإندونيسي بحر الدين بن يوسف حبيبي أثناء مرحلة الدراسات العليا في أوائل التسعينيات، كان وقتها يشغل منصب وزير التقنية ورئيس شركة الطيران والفضاء الإندونيسية. كانت زيارته لجامعة كرانفيلد الشهيرة في علوم الطيران لحضور حفل التخرج لمجموعة من طلبة الدراسات العليا الإندونيسيين الذين صبوا أبحاثهم في مشروع الطائرة (N-250) التي أوقف برنامجها فيما بعد. في تلك الفترة من الزمن كان الدكتور بحر الدين حبيبي يقود مشاريع تقنية استراتيجية نحو امتلاك (ماهية التقنية) التي بواسطتها تتحول الدول إلى القدرة الصناعية وتتحرر من التبعية. في كل دول العالم الثالث المفرطة في الطموح، تكون منتجات صناعية صارخة - مثل الطائرة أو الصاروخ أو السيارة أو القمر الصناعي – هدفا استراتيجيا كونه يأتي بمردود سياسي داخلي على الرغم من كون تلك المنتجات ليست من أولويات التنمية لديها. في تلك الفترة كانت إندونيسيا في حاجة ماسة إلى طائرة قليلة التكلفة الشرائية والتكلفة التشغيلية لربط مواطنيها في المئات من الجزر المتناثرة حيث يستحيل على أي وسيلة نقل الربط بينها بفاعلية زمنية. كانت للرئيس الإندونيسي رؤية شهيرة هي (نبدأ من النهاية وننتهي بالبداية) في إشارة إلى منهجية تملك الماهية التقنية من طرفيها. استطاع الإندونيسيون تصميم طائرة (N-250) هندسة وصناعة والتحليق بها بنجاح، وهي طائرة نقل مدني ذات 70 مقعدا صممت للنقل الجوي الإقليمي. كانت تلك الطائرة متقدمة على جميع الطائرات الغربية في وقتها حيث كانت مجهزة بنظام تحكم من الجيل الجديد وقادرة على الطيران الترددي بين المطارات الصغيرة. لكن الانهيار الاقتصادي الذي عصف بدول شرق آسيا عام 1997 أثر في إندونيسيا أكثر من غيرها حيث تعافت ماليزيا وكوريا الجنوبية بسرعة. اليوم تعيش إندونيسيا مرحلة من الازدهار الاقتصادي، وتعود صناعة الطيران ضمن منهجية أكثر عقلانية تتمثل في التركيز على الشراكات قليلة المخاطر لإنتاج طائرات مضمونة الطلب من الأسواق الخارجية وكذلك صناعة مكونات الطائرات للشركات الكبرى مثل إيرباص. نحن في المملكة في حاجة إلى رؤية استراتيجية عقلانية للصناعة المرتكزة على الماهية التقنية وليس على تجميع المكونات التي قد تحجب عنا يوما ما ثم نعجز عن ماهية صناعتها. يعرف المخلصون المختصون في الاقتصاد والصناعة في وطني أن السيارة غزال ليست من أولويات مشاريع توطين الماهية الصناعية مقارنة بتحديات مخيفة في الأفق القريب مثل تحلية المياه وتوليد الطاقة والصناعة الدفاعية. كانت غزال مثالا فقط رغم وجود أمثلة أخرى لمشاريع تائهة أفنت الوقت والموارد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي