متطلبات تدويل التعليم العالي(2 من 2)
إن توجه آيرلندا نحو تبني استضافة أكبر ملتقى للعلوم الأساسية في أوروبا لأول مرة في تاريخ الدولة كان أحد أدلة الجدية في تنفيذ الخطط التي رسمتها لنفسها. وبمقارنتها بجاراتها مثل ألمانيا وفرنسا، فهي أثبتت أن التوجه نحو اعتلاء القمة تصميم اتخذ القرار فيه مع بداية الألفية الثالثة وتحقق في الثلث الأول من زمن الاستراتيجية.
لقد اعتبرت آيرلندا أنها تهدف لتحويل المجتمع من معايش لواقع يومي إلى إبداعي وثقافي واجتماعي واقتصادي يعتمد على مخرجات التعليم العالي كمحور للتنمية الاقتصادية لعقود مقبلة. ومن خلال الأبحاث التي ستتبناها مؤسسات التعليم العالي والاعتماد على المشورة والنصح والإرشاد من الدول الصديقة ذات الخبرة الطويلة لتحقيق قفزات تنموية في تنفيذ أعقد المشاريع وتنويع الصناعات، ستكون الدولة قد قطعت مسافات نحو تحقيق الأهداف في فترة وجيزة.
تزامن مع هذا الحراك في القارة ذاتها، نشْر العديد من دول أوروبا تقاريرَ تعدد فيها هذه الدول مناح أخرى كجمال الطبيعة، وغنى الأرض بالموارد الطبيعية، وحسن التنظيم، والتخطيط الواضح لمستقبل واعد. هذه الدول أوحت إلى بعضها البعض أن الموارد الأخرى يمكن أن تجعل من الزائر مستثمرا لقدراته الفكرية والمالية. وبالتالي يصبح صاحب حق، ومن ثم مطوراً، فشريكا في المسيرة، فأساسا في نهضة القطاعات المختلفة في الدولة. وبالطبع ما أن يتمكن الفرد من البقاء في مكان ينشد راحته ويطور استثماره فإنه فعلا سيكون داعما ومُنميًا، فتزدهر جميع القطاعات ومن أهمها قطاع التعليم العالي، فيكون جاذبا للطلاب من أنحاء العالم ومصدرا لذي المهارات وأصحاب الفكر لمن يبحث عنهم، ملهما في صنع السياسات المصيرية.
لأنهم يهتمون بقدر كبير وملحوظ بالعلم والتعليم والعلماء تجد المؤسسات التعليمية توصي بأن تكون جميع المؤسسات تساندهم محليا وتدعمهم دوليا؛ لبناء نظام تعليم عالٍ على مستوى عالمي يحقق طموحات الدولة ككل وليس فقط المؤسسة أو المقاطعة أو القطاع وحده. وإذا ما قارنا ما يأمله الآيرلنديون مع ما جاء في تقارير دول أخرى أصبحت تحت مظلة اتفاقية بولونيا الشهيرة، فإضافة إلى محورية الطالب والشهادة والجودة في تنفيذ الخطط، فآيرلندا تتطلع لأن تكون البيئة في المؤسسات التعليمية الراقية ومكوناتها مناهج ومبان وأعضاء هيئة تدريس وباحثين مثابرين وقيادات عالميةَ المستوى، مدعومة من قطاعات الدولة وأركانها كلها وباستمرار؛ حتى يصبح القطاع مركز صناعة السياسات في مسيرة التنمية. ما أن تمضي سنوات في المجال فيتوقعون أن تكون آيرلندا مرة أخرى منار إشعاع معرفي ومصدرا للقوى العاملة المتميزة التي يبحث عن مثلها العالم بكل السبل محاولا تسجيل الاختراعات وتطوير حياة البشر وتسهيلها فتحلق الدول في سمائها كل منها لها ميزة.
نحن إذا أردنا أن نضع المؤشرات التي بها يمكن أن نضع أنفسنا في صفحة المقارنة مع دول العالم فإن: (1) تحقيق التميز الأكاديمي سيكون أول الأولويات. هذا في حد ذاته مبني على 6 ـــ 7 مؤشرات رئيسة لابد من الحرص على تطبيقها. (2) مع أن زيادة أعداد المنتمين للقطاع ـــ مؤسسات وأفراد ـــ بدأت في التحقيق وستصل السعودية لمستويات لم يتوقعها حتى أبناؤها خلال السنوات السبع المقبلة، إلا أن النوعية والتنوع هي ما نبحث عنه الآن، وهو مدار تتزاحم كثير من الدول ـــ حتى المتقدمة ـــ لحجز مقاعد لها فيه. (3) التوسع وفتح مجالات علمية جديدة سينعكس على المناهج والمقررات لتكون متوافقة مع أحدث التوجهات العالمية في تطوير المهن والقوى العاملة والصناعات التي تسعى دول عالمية التميز فيها بكل ما أوتيت من إمكانات وقدرات. (4) انعكاس مدى التعاون بين القطاعات محليا على مسيرة التعليم العالي، وبالطبع التعاون مع الدول الخارجية المجاورة والقريبة والقارية، لابد أن يكون منظوراً. مع أن هذا يسير في مساره الصحيح لحد كبير بعد أن تمكنت كل جامعة من القيام بخطوات جادة ومهمة، إلا أن دعم القطاعات المختلفة من هيئات ومجالس ومؤسسات وبالطبع وزارات أصبح حتميا في تسهيل إصدار القوانين واللوائح وتسريع تطبيقها، وتوفير الموارد وتسخيرها لخدمة التعليم العالي لما لا يقل عن عقدين قادمين. (5) تبني برامج الجودة في جميع المستويات المختلفة والمؤسسات التابعة للقطاع بما فيها الموارد البشرية، سيحول العمل إلى إدارة الكفاءات بكفاءة عالية وهو الوضع المثالي. (6) وضع أهداف زمنية محددة نصل فيها لنسبة مئوية معينة تتنامى مع الوقت في تحقيق الأهداف. فمثلاً استمرارية الصرف على البرامج التطويرية والأبحاث المتميزة لتوطين الخبرات وتطوير المهارات والاستفادة من المقدرات وبناء القيادات. إضافة إلى ذلك إكساب الطلاب المتميزين بعضا من الثقة في النفس بتعريضهم لمختلف الظروف الحياتية محليا ودوليا فيما يعود عليهم بتحسين مهارات التعلم، ورفع مستوى التحصيل المعرفي، والإطلاع على أنماط معيشية صحية، والاختلاط مع مفكرين يفكرون في صنع آفاق جديدة لحياتهم المستقبلية شخصيًا ووطنيًا.
مما سبق أتخيل أن يكون للتعليم العالي في الحقبة المقبلة حضور على كل طاولة مستديرة ومستطيلة يراد من المجتمعين عليها الوصول لأن نكون أنموذجًا مثاليًا لمجتمع راق في علمه وفكره ومهاراته وسلوكه. فهل يتم ذلك؟