المتعة «توازن عجيب»

غريب شأن المتعة فهي لا ترتبط دائما بما هو غالٍ أو ثمين فتجدها أحيانا في أفقر الأشياء وأقلها قيمة، فتجدها أحيانا في التهام قطعة من الخبز الأفغاني الساخن في طريق عودتك إلى المنزل، أو تجدها في أكلة لذيذة في مطعم شعبي معروف، أو تجدها في سماع أغنية طربية قديمة، أو تجدها في قراءة كتاب قديم يحتوي على أساطير شعبية، أو تجدها وأنت تجلس على هضبة مرتفعة في صحراء ممتدة في ليلة من ليالي الشتاء البارد والنار أمامك تشتعل، وقد وضعت إبريقا من الشاي وإبريقا من الحليب فوق جمرها الساخن.
فالمتعة ليست حكرا على الأغنياء دون الفقراء، بل لكلٍ منهما نصيب منها، فقد يتمتع الأغنياء بوجبة عشاء فاخرة على يخت يسير في عرض البحر وأمامهم الشموع في جو رومانسي جميل، وقد يستمتع الفقراء بوجبة لذيذة في مطعم شعبي بعد يوم عمل شاق، وقد يستمتع الأغنياء بكوب من الكابتشينو على أنغام موسيقى كلاسيكية رائعة، وقد يستمتع الفقراء بفنجان شاي لذيذ على أغنية من أغاني أم كلثوم، وقد يستمتع الأغنياء بمسلسل رائع على قناة الاشتراك فيها برسوم باهظة، وقد يستمتع الفقراء بقراءة رواية مطبوعة على ورق رخيص، وقد يستمتع الأغنياء بقضاء إجازة في جزر المالديف، وقد يستمتع الفقراء بإجازة على شاطئ بحر مخصص للجميع وبدون رسوم مدفوعة، وقد يستمتع الأغنياء برحلة مكلفة على يخت فاخر داخل نهر كبير، وقد يستمتع الفقراء برحلة رخيصة على قارب صغير في ذات النهر.
إذًا لا شأن للغنى أو الفقر بمستوى المتعة، فقد يحظى فقير بمستوى متعة تفوق مستوى متعة شخص غني، وقد يفقد المتعة من يملك الملايين فالمال وحدة لا يجلب المتعة.
ولا يوجد أمر لو فعلته فإنك بالضرورة ستستمتع به، لأن ذلك يعتمد على استعدادك النفسي والبدني، إن الغنى والفقر ليس لهما علاقة بذلك، فاستعدادك النفسي للمتعة هو أحد أهم الأمور التي تجعلك تستمتع فعلا، فقد تكون غنيا جدا من وجهة نظر الفقراء، وترى نفسك فقيرا جدا، لأنك تنظر إلى من هم أغنى منك بكثير فيكون ذلك أحد أسباب عدم تمتعك بما يستمتع به الآخرون، وقد يكون سببا رئيسا في شعورك بالتعاسة المطلقة.
لذلك يجب عليك خلق توازن بين الرضا والطموح، وبين العمل والراحة، وبين الوقت المخصص للآخرين والوقت المخصص لك ولعائلتك، وبين النظر إلى من هم أغنى منك والنظر إلى من هم أفقر منك، إن خلق هذا التوازن يخلق لديك استعدادا نفسيا جيدا للتمتع بما هو ممتع، ويبعد عنك أسباب التعاسة والحزن.
إن ما يدفعه الناس من أموال باهظة في السياحة في إجازتهم السنوية وبقضاء إجازة نهاية الأسبوع هي أموال يحاولون بها أن يشتروا المتعة لهم ولعائلاتهم، ويرون أن الأمر يستحق، نعم إن المتعة تستحق أن نخصص لها نسبا مهمة من دخلنا، فهي من تجعل لحياتنا قيمة مهمة، وهي من تجعلنا ننجح أكثر في أعمالنا، فالمتعة حق يستحقه الجميع الغني والفقير، وكل يستمتع على طريقته الخاصة وبما يناسب إمكاناته المادية.
ولو دققت في أمر المتعة ستجد أن هناك توازنا عجيبا فيها، فحينما تجوع أكثر تستمتع بالأكل أكثر، وحينما تقوم بمجهود بدني كبير تستمتع وأنت تستريح على كرسي صخري على قارعة الطريق، وحينما تشفى من المرض تستمتع بعافيتك التي عادت إليك، وأذكر أننا كنا نستمتع جدا بأكل السمبوسك في رمضان، لأننا لم نكن نأكلها في سواه، وبعد أن أصبحت متاحة في جميع الأوقات ذهبت متعتها ولذتها، وأذكر أننا كنا نستمتع جدا بالمسلسل الذي يأتي بعد الأخبار على القناة الأولى، وذلك قبل انتشار القنوات الفضائية، والآن لا نستمتع بالمسلسلات إلا نادرا على الرغم من وجود عدد كبير منها، نعم إن المتعة عبارة عن توازن عجيب جدا تؤثر فيه عدة عوامل منها الندرة والاستعداد النفسي، ومنها أيضا مقولة: "والضد يظهر حسنه الضد".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي