أزمة القروض .. ليست قضايا فردية أو حرية شخصية بل مشاكل أمنية واجتماعية
في مقالي السابق قلت، للحديث بقية، وهي إجابتي عن بعض الردود التي قالت إنني أحاول جهداً الدفاع عن موقف البنوك ومحاولتي تبرئة ساحتها من كارثة القروض الاستهلاكية التي ستلحق خسائر جسيمة بالمواطنين، والقسم الآخر طالبني بوضع خطوط عريضة لإيجاد حل مناسب، فالكاتب صاحب الحل أفضل من الذي يطرح المشكلة!
حسناً أنا لم انته من المسلسل المكسيكي عن البنوك، وأريد الرد أولاً على الآراء التي اعتقدت أني أحاول الدفاع عن دور البنوك، وأقول إن دوري وموقفي (حيادي)، وشرحت من منطلق اقتصادي أهمية الدور الذي تلعبه القروض في النشاط الاقتصادي عموماً، فلا دورة اقتصادية بلا قروض، أما بالنسبة لوضع تصور أو خطوط عريضة للحلول، فأقول لنبدأ من خط البداية، أي محاولة إصلاح الخلل قبل أن يبدأ، فمشكلة المقترضين الحاليين، أنهم يجب أن يسددوا وإلا فإن الفوائد البنكية ستزيد عليهم، وسيضطر البنك إلى اللجوء إلى الجهات المختصة لإجبارهم على السداد!
وجزء كبير من الحلول، يجب أن ينطلق من البنوك، فلا يكفي أبداً تحرير مجموعة من الخطابات الرسمية التي يطلبها للتأكد من أن صاحب القرض في حاجة إليه، وإغفال الجهة الثانية حول قدرة المقترض على التسديد، أن إدارات البنوك مطالبة بدور أوسع في هذا الجانب، عبر محاولة إجراء دراسة وافية عن العميل، فلا مانع أبداً أن يقوم البنك بإيفاد مندوبه إلى مقر عمله، ومحاولة التعرف إلى جزء من شخصيته، إذ لربما يكتشف مندوب البنك مع العلم (يمكن تشغيل 2200 موظف جديد مندوب استعلام)، أن عميله مشهور باقتراض المال، ومعروف بالتورط والمماطلة والتسويف! ألا يكفي تقرير من مندوب البنك عن سلوك عميله داخل عمله ومعرفة سلوكه المالي العام لتجنب الكارثة.
وجزء آخر من مسؤولية البنك، هو مزيد من التحقق حول حاجة عميله إلى القرض وإنفاقه له بشكل سليم، خذ مثلاً، عميل يريد الاقتراض لتمويل رحلة سفر أسرته في شهر الصيف! أهذا أمر معقول؟ وأتوقع أن مسؤولي البنوك، سينتقدون اقتراحي على اعتبار أن المرونة وسرعة الرد على العميل للحصول على قرضه هو جزء من أبرز أدوات المنافسة بينها، لكني أؤكد أن إجراء مزيد من البحث والتحري والاستقصاء عن العميل، هو جزء مهم من المسؤولية الاجتماعية للبنوك، كما أنها في النهاية ستؤدي إلى حماية العميل نفسه، وحماية أموال البنك بدلاً من رفع فائدة القروض لتغطية الديون المعدومة لديها!
وبحسب علمي، لا توجد دراسة وبحث ميداني للقروض الشخصية خصوصاً، وذلك يثبت لنا مثلاً حقيقة نراها لكننا لا نستطيع تثبيتها بالإحصاءات الرسمية، أن أكثر من 50 في المائة من القروض الشخصية تذهب لتمويل شراء (الكماليات) وليس (الضروريات)، لقد أصبح الإنفاق على (الكماليات) واحدا من أهم بنود الإنفاق الاستهلاكي، ولا أريد القسوة على مواطن يبلغ راتبه الشهري نحو أربعة آلاف ريال، يقوم باقتراض مبلغ مائة ألف ريال، لتمويل شراء أدوات كهربائية أو سيارة، وحتى لا أقسو على شريحة كبيرة أيضاً من المجتمع، فإن كل مواطن معرض للوقوع في (ورطة مالية)، وبسبب غياب نهج مؤسسي عام أو خاص يحتضن المبدأ الإسلامي (القرض الحسن)، سيزداد الأمر سوءا.
وهنا وجب علينا التحرك بشكل جدي لإتاحة المجال لمؤسسات حكومية لإقراض المواطنين للسكن والأعمال الصغيرة، بفوائد بسيطة وعمولات منخفضة، مع منحها كافة الضمانات اللازمة لضمان سداد هذه القروض، ويجب التفكير في شكل قروض للمساهمة في التنمية والتطوير لترد إلى ذلك المقترض في شكل أرباح يمكن أن تعود إليه نهاية العام كما يحصل في الدول المجاورة في الخليج، خصوصا مع زيادة معدل الزيادة الكبيرة للسكان التي تصل إلى نسبة 3 في المائة سنوياً، إضافة إلى ارتفاع المعيشة (سوق الخضار) وانخفاض القوة الشرائية، متصاحبة مع نمو عدد العاطلين عن العمل وخاصة ما بين الشباب والنساء، فكل ذلك حمل الموظف السعودي التزامات كبيرة نتيجة ارتفاع عدد المعالين وهو ما يدفع غالبيتهم إلى الاقتراض من دون التفكير في عواقب هذا الاقتراض والتزاماتها.
وبالمناسبة، فإن لدينا فئات تعاني من ديون استهلاكية، وتشتري من دون أن تملك حتى الدفعة الأولى، مرتبة على نفسها ديونا لا طاقة لها على دفع أقساطها. وهناك تسهيلات تقدمها شركات تجعل المواطن يحصل على القروض بأدنى الضمانات. البشر جميعا يميلون إلى الحياة الناعمة والترف، لكن ثمة ضوابط تحدد السلوك. وتحول الرغبة في الاستهلاك إلى مشكلات اقتصادية واجتماعية، وملفات في المحاكم، أو مصدر لخلافات وربما أكثر، هو الذي يجعل من هذه السلوكيات ليست مجرد قضايا فردية أو حرية شخصية، بل ظواهر ومشاكل أمنية مع الحقوق المدنية.
إننا نطالب البنوك التجارية التي تحصل على إيداعات من المستثمرين بدون فوائد مالية أن تقوم في المقابل باستثمار عوائد مدخرات المستثمرين في بنوكها وتقديم خدمة اقتصادية مضافة للمجتمع السعودي، عن طريق تخصيص 5 في المائة من أرباحها لصالح المتعثرين عن السداد الذين يمكث جزء منهم في السجون وجزء كبير منهم مازال يحارب الفقر والجوع لسداد فوائد قروضه المتراكمة.
كذلك نرى أهمية أن تقوم الحكومة بفرض (ضريبة أرباح) على فوائد الاقتراض على غرار باقي دول العالم وأن يخصص ريعه لصالح الأمن العام وتنمية الموارد البشرية وتطوير عمل المرأة السعودية وإنشاء صندوق خاص يعتني بدفع ديون المقترضين المتعثرين الموجودين حاليا في السجون وأيضا تخصيص صندوق لدفع الدية لإطلاق سراح المساجين.
ختاما، إن أهمية الاستمرار في توعية المواطن بأهمية (الثقافة المالية)، ومحاولة إدارة ميزانيته الشخصية حسب قدراته، والتي تحتاج إلى إرادة قوية، تكبح الشهوة نحو الاستهلاك مثلما يفعل أصحاب الأوزان الثقيلة في برنامج خفض الوزن، وهي فكرة قابلة للتطبيق، لاستقاء مفهوم (الإرادة الشخصية) .. وللحديث بقية!