تهريب الوقود في بعض الدول النفطية
أنعم الله على بعض دول العالم بنعمة النفط، وهو عصب الحياة ووقودها. وأرادت بعض هذه الحكومات أن تخفف على شعوبها أعباء الحياة، فدعمت المشتقات النفطية كالديزل والجازولين وغيرهما. لكن اختلاف أسعار الوقود بين الدول المجاورة خلق مشكلة كبيرة لهذه الدول الداعمة، وانقلبت كثير من الأموال المراد إهداؤها لشعوب هذه الدول إلى أموال ضائعة في جيوب المهربين. فعلى سبيل المثال، هل يعقل أن ربع الوقود المنتج في الجزائر يهرب إلى الدول المجاورة، ما دفع الجزائر أخيرا وبسبب تصاعد ظاهرة التهريب لإطلاق صفارات الإنذار وإعلان حالة الطوارئ من أجل الحد من تهريب الوقود على حدودها مع المغرب وتونس ومالي. وتأتي حالة الطوارئ هذه بسبب تسجيل ندرة وانقطاع الوقود في العديد من مدن الجزائر الحدودية، نتيجة تهريب كميات كبيرة منه إلى المغرب وتونس. ويتركز التهريب في المدن الحدودية، فمثلاً تستهلك ولاية تلمسان الحدودية مع المغرب، التي يبلغ عدد سكانها نحو المليون نسمة، وقوداً أكثر من الجزائر العاصمة ذات الثلاثة ملايين نسمة التي يوجد فيها أكبر عدد من السيارات في كل البلاد.
وتخسر الجزائر نحو 1,2 مليار دولار سنوياً جراء تهريب 1.5 مليار لتر سنوياً. ويعتبر الاختلاف الكبير في أسعار الوقود بين الجزائر البلد المنتج وكل من تونس والمغرب السبب الرئيس لتنامي ظاهرة التهريب، إذ يصل سعر لتر الجازولين المدعوم في الجزائر إلى نحو ربع دولار، في حين يبلغ سعره في المغرب أكثر بخمس مرات؛ أي 1.4 دولار. وفي تونس، يبلغ السعر نحو دولار؛ أي ثلاث مرات أغلى من الجزائر. وتحاول الأجهزة الأمنية في الجزائر عمل المستحيل للتغلب على هذا النزيف، وهذه الظاهرة التي تمص دم الاقتصاد الوطني في الجزائر من خلال تقوية المراكز الحدودية وتكثيف الطلعات الميدانية لحرس الحدود.
هل تستطيع الجزائر التغلب على هذه المشكلة المعقدة وما الحلول الناجعة التي قد تستعملها الجزائر لإنقاذ اقتصادها من دون إلحاق الضرر بالمواطنين العاديين؟ دعم الوقود عمل رائع من الحكومات، لكن بشرط أن يصل هذا الدعم إلى المواطن المستحق لهذا الدعم. المشكلة أن هذا الدعم تحول إلى صداع يؤرق الحكومات المختلفة في المنطقة، وبدلاً من أن يذهب معظم الثمر لمساعدة المواطن نشأت مجموعات مختصة تعيش وتزدهر على قوت الشعوب، وذلك بتهريب الثروات إلى خارج الحدود من أجل الثراء السريع.
وتوجد في الكويت حالياً علامات استفهام كبيرة حول تزايد استهلاك وقود الديزل من خلال محطات الوقود التي تدار من قبل شركة البترول الوطنية الكويتية. وكانت كميات الديزل المقررة شهرياً للشركة تبلغ نحو 45 ألف لتر، إلا أن الكمية المسحوبة فعلاً ارتفعت في بعض الأشهر خلال الفترة الممتدة من كانون الثاني (يناير) 2010 حتى شباط (فبراير) 2011 إلى أكثر من 176 ألف لتر. طبعاً لن يكون التهريب إلى المملكة حيث أسعار الوقود أرخص من الكويت، لذلك يتجه هذا الوقود المهرب إلى إيران والعراق. وبحسب مجلة ''ميد'' تخسر الكويت نحو 890 مليون دولار سنويا نتيجة عمليات التهريب. وأيضاً لا ننسى تهريب الوقود من المملكة إلى الدول المجاورة. والجدير بالذكر أن أسعار المحروقات في المملكة أرخص بمراحل من كل الدول المجاورة، ما أغرى المهربين بتسريب الوقود عبر الحدود. وللحد من هذه الظاهرة أقرت المملكة إجراءات مشددة لمنع تهريب الوقود عبر المنافذ الحدودية.
أما تهريب الديزل من إيران إلى تركيا وباكستان وأفغانستان (وبحسب ''فاينانشيال تايمز'')، يعيش أحسن حالاته، ويتم تهريب ما بين سبعة وعشرة ملايين لتر من البنزين والديزل يومياً من إيران إلى هذه الدول، وهو ما أدى إلى ارتفاع الطلب على الوقود في إيران أخيرا بنسبة 7 في المائة. ويبلغ سعر لتر الديزل في إيران 0.14 دولار، وهو سعر منخفض مقارنة بجميع الدول المجاورة لإيران، حيث يتمكن المهربون من بيعه بأسعار تراوح بين سبعة وعشرة أضعاف سعره داخل إيران. أما في العراق فإن أسعار المنتجات النفطية مدعومة أيضاً، لذلك تجد هناك من يسعى إلى تهريبه؛ لأن أسعاره في بعض دول الجوار أعلى، فعلى سبيل المثال أسعار الوقود في تركيا أغلى من العراق بنحو أربع إلى ست مرات، لهذا تم وضع آلية محكمة من خلال البطاقة الوقودية، لتمكن من لديه هذه البطاقة من تسلم نحو 500 لتر.
وتعاني حدود فنزويلا وكولومبيا المشكلة نفسها، إذ إن سعر الوقود في فنزويلا يكاد يكون الأرخص عالمياً وبينما سعره في كولومبيا من الأغلى عالمياً. وجود مثل هذه البيئة يساعد بكل تأكيد على نمو وتطور ظاهرة تهريب الوقود من أسفل إلى أعلى، لذلك اقترح والي إحدى هذه المدن الحدودية أن يتم رفع سعر الوقود على الحدود بـ150 في المائة لمحاربة هذه الظاهرة العالمية. لكن الغريب في الأمر اختفاء هذه الظاهرة في الدول الأوروبية، فعلى الرغم من أن النرويج تعد أهم بلد نفطي في أوروبا الغربية (تنتج مليوني برميل يومياً تقريباً)، بينما جارتها السويد لا تكاد تنتج نفطاً يذكر، إلا أن أسعار المحروقات (ديزل وجازولين) في النرويج أعلى قليلاً من السويد فانعدمت واختفت ظاهرة تهريب الوقود بين البلدين.
يعد التهريب أحد التحديات التي تواجه دعم المحروقات في هذه البلدان، وهو بكل تأكيد آفة تنخر في اقتصادات هذه الدول. لكن توجد تحديات أخرى لهذا الدعم مثل الاستهلاك الجائر وغير المبرر جراء انخفاض الأسعار. وأيضاً ذهاب الدعم إلى غير الشرائح المقصودة، فعلى سبيل المثال، تقوم دول الخليج العربي بدعم الوقود في دولها، وفي الوقت نفسه توجد لدى هذه الدول ملايين العمال من بلدان مختلفة قدموا بقصد العمل وكسب الرزق. وجود هذا الكم الهائل من العمال (تبلغ نسبة الأجانب في بعض الدول الخليجية نحو 65 في المائة من إجمالي عدد السكان)، وتحويلهم مئات الملايين خارج البلاد شهرياً في حد ذاته يرهق اقتصاد أي بلد. لكن أن يذهب جزء كبير من دعم الوقود إلى هذه الشريحة الكبيرة يعني تكليف الحكومات مليارات الدولارات فقط لدعم هذه الشريحة التي أسهمت في ازدياد أعداد السيارات والاختناقات المرورية.
التهريب مشكلة معقدة وليس من السهل حلها، لذلك لجأت بعض الدول إلى استخدام بطاقات (كروت) ذكية لدفع النقود ولإثبات العملية إلكترونياً للحد من عمليات التهريب وخفض هدر دعم الوقود الذي يلحق بالاقتصاد الوطني خسائر كبيرة. والبعض الآخر يرى أن الحل يكمن في رفع الأسعار بحيث تكون قريبة من دول الجوار حتى لا يصبح للتهريب منفذ أو زبائن ويحد من التبذير، لكن في الوقت نفسه يجب تعويض المواطنين بطرق أخرى.
إن النمو الكبير وغير المبرر في استهلاك المشتقات البترولية في الدول التي تطبق دعم الوقود بدأ يؤرقها ويلقي بظلاله الكئيب عليها، لذلك قد يكون الدعم الذكي الحل الأمثل بحيث يصل الدعم للمواطن .. والمواطن فقط .. من دون تبذير أو تهريب.