إغراء جرينسبان

كان لزاماً على من وضعوا مسودة دستور الولايات المتحدة أن يتخذوا القرار بشأن اختيار أساسي: هل ينبغي لهم أن يركزوا السلطة بين يدي رجل واحد، أم يبتكروا نظاماً سياسياً، حيث يكون التأثير في عملية صنع القرار أكثر توزعا؟ والآن يواجه الرئيس الأمريكي باراك أوباما اختيارا مماثلا، وهو ينظر فيمن يجب أن يخلف بن برنانكي في منصب رئيس مجلس محافظي نظام الاحتياطي الفيدرالي.
إن إرث برنانكي مختلط من غير ريب، لكن الميزة الأكثر جاذبية فيه هي روح الزمالة والمسؤولية المشتركة التي شجعها في بنك الاحتياطي الفيدرالي. والواقع أن أحد أهداف خليفته الرئيسة لا بد أن يتلخص في تعزيز هذا النهج كتقليد مؤسسي جديد.
ورغم هذا فإن الميل القوي في اتجاه الاستعانة برئيس مطلق السلطة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي واضح من التاريخ، ومن بالونات الاختبار التي أطلقتها أخيرا إدارة أوباما. يتألف مجلس الاحتياطي الفيدرالي من سبعة محافظين؛ لكن على مدى القسم الأعظم من تاريخه، كان المجلس يعمل تحت ظل رئيسه، ولقد خدم ثلاثة من رؤسائه (مارينر إيكليس، ووليام ماكينزي مارتن، وأخيرا ألان جرينسبان) مدة تقرب من 20 عاما.
إن القرار الخاص بالسياسة النقدية يتخذ عادة بواسطة لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية، التي تضم 12 عضواً لهم حق التصويت: محافظو مجلس الاحتياطي الفيدرالي السبعة، ورئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، وأربعة رؤساء من رؤساء بنوك الاحتياطي الفيدرالي الإقليمية الآخرين (الذين يخدمون على أساس سنة واحدة بالتناوب). لكن في الممارسة العملية، سيطر جرينسبان والعديد من أسلافه على عمل لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية.
لكن ماذا يعيب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الكلي القدرة؟ بوسعنا أن نبدأ بالنظر في التأثير الدائم الذي خلفه ألان جرينسبان، الذي كان مؤمناً بشدة بأن إلغاء القيود التنظيمية المالية من شأنه أن يسهم في تحقيق نمو اقتصادي أكثر استقرارا. وعلى حد تعبيره في عام 1997: "ونحن ندخل قرناً جديدا، فإن القوى التنظيمية الخاصة المثبتة لاستقرار السوق لا بد أن تعمل بالتدريج على إزاحة العديد من الهياكل الحكومية المرهقة والفاقدة لفعاليتها على نحو متزايد ".
ترك جرينسبان منصبه في عام 2006، لكن جزءاً كبيراً من الأزمة التي سرعان ما حلت بعد رحيله من الممكن أن يُعزى إلى ذلك النوع من الإبداع المالي الذي شجعه. وبحلول عام 2008، في شهادته أمام الكونجرس، كان جرينسبان على استعداد للتخلي عن خلل فادح في فِكره- فإلغاء القيود التنظيمية التي تحكم عمل الأسواق المالية من الممكن أن يؤدي حقاً إلى عواقب وخيمة.
ففي المواقف حيث يتطلب الأمر صنع القرار بسرعة وجرأة، لا بد أن يكون شخص ما في موقع المسؤولية. وقد فعل الكونجرس القاري خيراً عندما طلب من جورج واشنطن في عام 1775 أن يتولى قيادة القوى التي كانت آخذة في الازدياد آنذاك في التمرد ضد البريطانيين. لكن واشنطن بدوره كان من الحكمة بالقدر الكافي لرفض القوى الاستبدادية بعد الاستقلال- ومرة أخرى عندما استقال بعد ثمانية أعوام بوصفه أول رئيس للدولة الجديدة.
إن السياسة النقدية تنطوي على قدر كبير من الفن، فضلاً عن بعض العلم. والواقع أن فهمنا للتنظيم الكلي الحصيف والكيفية التي يؤثر بها في الاستقرار المالي لا يزال في مرحلة مبكرة للغاية. وكانت العواقب المترتبة على الفهم الرديء للارتباطات المتبادلة بين الدول سبباً في تضييق رؤية البنوك المركزية الرئيسة على مستوى العالم بشكل متكرر ــ ولنتأمل هنا أزمة اليورو أو إفراط البنوك الأوروبية في الاعتماد على التمويل من صناديق أسواق المال التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها.
ولا بد أن يكون رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي المقبل شخصاً يتمتع بعقل مفتوح، والقدرة على إشراك مرؤوسيه، والرغبة في غرس الخبرات في مختلف أنحاء نظام الاحتياطي الفيدرالي. وستكون أسوأ نتيجة محتملة أن يتم اختيار شخص يشارك جرينسبان ميوله- التكتم على البيانات بإحكام، واحتكار عملية صنع القرار، ومحاولة ترهيب الزملاء.
وتولي شخص بهذه الأوصاف المسؤولية لمدة 20 عاماً يشكل وصفة أكيدة لكارثة اقتصادية، التي ستبدأ بلا أدنى شك في هيئة أزمة مالية. لكن هذا لن يكون أسوأ المخاطر. فستكون هناك أيضاً مطالبات ملحة بالحد من سلطات مجلس الاحتياطي الفيدرالي أو الحد من استقلاله عن الكونجرس.
وقد جربت دول عديدة السماح للساسة بالسيطرة على السياسة النقدية على أساس يومي، ولم ينته ذلك إلى خير قط - فالساسة ببساطة يجدون إغراءً قوياً لاعتصار الاقتصاد في فترات التحضير للانتخابات أو في اللحظات الأخرى المهمة سياسيا.
وبدلاً من اللعب بالنار من خلال اقتراح رئيس لمجلس الاحتياطي الفيدرالي يطمح إلى التحول إلى شخصية مهيمنة، فربما ينبغي لإدارة أوباما أن تفكر في تحديد مدة ولاية رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي (ولنقل بثماني سنوات). إن تحديد مدة الولاية يعمل على تحسين الإدارة في بعض الهيئات الرسمية الأخرى في الولايات المتحدة وأماكن أخرى.
والمشكلة هي أنه بمجرد وضع فكرة إصلاح مجلس الاحتياطي الفيدرالي على الطاولة، فإن كل الأفكار الأخرى ستظهر على السطح. فقد تسفر عشوائية العملية السياسية بسهولة عن نتائج تقلل من استقلاله. ولهذا السبب فإن أسلوب قيادة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي يشكل أهمية بالغة.
لكن برنانكي ارتكب بعض الأخطاء- بما في ذلك التفكير بشكل أقرب كثيراً إلى تفكير جرينسبان في الفترة التي سبقت كارثة 2008. لكنه أنشأ أيضاً العناصر الأساسية لعملية صنع القرار بشكل أكثر جماعية وتوازناً داخل مجلس الاحتياطي الفيدرالي. ولا بد أن يتم اختيار خليفته مع الوضع في الاعتبار هدف البناء على هذا الإنجاز.

خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي