الطب بين الممارسة والرعاية
نعيش اليوم وضعا اقتصاديا حساسا يتحكم فيه الكثير من القرارات الدولية والمحلية. قد تعوق بعض مساراته وجود عقبات شكَّلها الإنسان كفرد، أو تسبب في تشكيلها بطريقة غير مباشرة. لذلك يتحتم علينا تحديد أولوياتنا مرة أخرى ومن ثم إعادة تعريف المشكلات وحدودها لنضع الحلول بكل ثقة بعد فهم أبعادها. هذا يعني أن نكون جميعا على الصفحة نفسها لنعمل معا ونسير في الاتجاه الثابت نفسه، إنه يمكن أن يحقق نجاحا بفوائد عدة إذا ما تم السير فيه.
تحت هذه المظلة تكمن أهمية كثير من الصناعات "الخدمات المقدمة" التي تتأثر بالتغيير والتطوير المستمر على نحو مباشر. من هذه الصناعات؛ التعليم والصحة؛ حيث إن تطور الأساليب والوسائل والأدوات المستخدمة فيهما تجعلهما على رأس قائمة أهم الصناعات التنموية لأي أمة. بالتركيز على المجال الصحي، فمع أنه يتعلق بحالة الجسم عضويا وغير عضوي، إلا أن إعداد الممارس الصحي "مقدم الخدمة"، وتكاليف التشخيص والعلاج، وحداثة الأجهزة وطرق استخدامها، لم تعد في معزل عن تأثير الوضع الاقتصادي -غير المتزن عالميا- على هذه الصناعة بشكل شمولي. لقد أصبح التعريف والاهتمام بكثير من التفاصيل لتقديم أفضل رعاية صحية أو على الأقل الكفاية الإنتاجية الآمنة لعقود قادمة موضوع يحتاج إلى طرح متكرر ومن زوايا تلهم المسؤولين في القطاعات المختلفة بأن يوجهوا البوصلة تجاهها لأهميتها. من أهم الزوايا في صناعة الرعاية الصحية: (1) التأهيل و(2) التمويل. وإذا ما وعى الطالب ومقدم الخدمة والمستفيد منها حجم الموضوع من خلال هاتين الزاويتين كما يعيها المسؤول فإننا بلا شك سنتحرك على الخط نفسه وسيكون لنا شأن كبير في خريطة الرعاية الصحية العالمية.
من وجهة نظر شخصية أجد أننا نحتاج إلى بعض الوقت في هذا الجانب. فمن زاوية التأهيل: أبناؤنا يتعلمون في أجمل وأرقى المباني التي فيها أفضل القاعات المستخدم فيها أفضل الوسائل المتاحة في العصر الحديث. هذا بالطبع ما وفرته وستوفره الدولة -أعزها الله- بالجودة نفسها وبأي حجم أتاحه. لكننا ننتظر أن يكتمل الدور بقيام المعلم أو المدرب أو الأستاذ بدوره التوجيهي والإرشادي في التحصيل المعرفي ورفع المستوى الفكري لدى الطالب. من ناحية أخرى، زيادة الاعتراف واعتماد المرافق الصحية للتدريب لتوسيع قاعدة المرافق الممكن استيعاب متدربين فيها. في الواقع القضية ما زالت بين مد وجزر، فالمشغلون "من أرباب الأعمال أو التنفيذيين" في الجهات العامة والخاصة يشتكون من ضعف المفهوم الفكري قبل التمكن المهاري لدى حديثي التخرج. ثم إن مهاراتهم تحتاج إلى تدريب لمدد أطول وبشكل موسع ليصل مقدم الخدمة أو الممارس الصحي إلى درجة الرضا. إضافة إلى ذلك، فبعد ترخيصهم للعمل يميل كثير من الممارسين للبحث عن أفضل العروض قبل أن يثبت أنه يستحق العرض. هذا يعني أن هناك عنصرا مفقودا في العملية التعليمية والفترة التدريبية. أما من ناحية التمويل، فالأفضل أن يفرد له مقال آخر.
للإيضاح لو أننا سألنا اليوم المتميزين من الأطباء: هل يمكن لخريجي كليات الطب اليوم استيعاب أن ما يقومون به "كتطبيب" بأنه مجال تخصصوا فيه، في حين أن الاستثمار فيه وتقديم الرعاية الصحية لمن يحتاج إليها هو مجال استثمار كأحد مجالات الأعمال المختلفة في سوق العمل؟ الإجابة قد تكون بالنفي وقد تكون إيجابية، والاحتمال قائم، لأنه لا توجد دراسة ترد على هذا التساؤل. ولئلا نعود لدائرة من يدير المرفق الصحي الطبيب أم المتخصص في الإدارة الصحية، فنحن في حاجة إلى طرح السؤال للإجابة عنه بأسلوب علمي لا يخلط بين الأدوار، بل يركز على الفرق بين التخصص والاستثمار فيه.
إن عدم الفصل بين إجادة ما يقوم به الطبيب وأداء المهام بكل أمانة وحيادية وتمكن عالٍ، وبين تقديم الرعاية الصحية بمقابل وفي حدود رسوم الخدمة ليعني خلطا مهنيا يسقط الطبيب في ارتكاب أخطاء لا أخلاقية مهنيًا. فالبحث عن تحسين الوضع الخاص عبر أداء الخدمة بمعايير تجارية بحتة يجعل الطبيب يقايض كل ما تلقاه وتعلمه بما سيكسبه ويحسن دخله به. وهنا يلام الطبيب على مستوى تعليمه الذي تلقاه ونوعيته وماهية الأساتذة والمدربين الذين أشرفوا على تعليمه حتى بعد التدريب المستمر. هذا يجعل المجتمع متشكيا دائما من كثرة الأخطاء الطبية والضعف الإداري في المنظومة الصحية.
لتلافي ذلك قد نفكر في جعل التعليم الطبي ثنائي المحاور "طبي وإدارة أعمال"، حيث يتم تخريج الطلاب بشهادتين MD-MBA ثنائية مثلما هو في عشرات الجامعات التي بدأت التوجه نحو هذا التأهيل. يثبت ذلك ما أوردته Association of MD/MBA Programs من أن عدد الجامعات الآن أصبح 54 جامعة في أمريكا تمنح هذا النوع من الشهادات وما زال العدد في تزايد. لذلك قد يكون هذا حلا، لكن لنمنح هذا التوجه بعض الوقت للدراسة بغرض لاستفادة مما توصل إليه غيرنا وقد ثبت لهم فائدته خدميًا ومهنيًا واقتصاديًا. في النهاية نحن نسعى إلى تخريج أطباء قياديين أيضا يعون تماما الفرق بين امتهان الطب كتخصص وتقديم الرعاية الصحية كاستثمار تجاري.