ديكارت الوجه الفلسفي الأول للحداثة
يعد ديكارت ( 1596 - 1650) أبا للفلسفة الحديثة بامتياز، فمن أين له هذه الأبوة؟ وبأي معنى يكون ﺫلك؟ لقد توصلنا في المقال السابق كون أن مهد الحداثة باعتبارها ﺫلك القلب المنهجي، الذي جعل الحقيقة تبنى انطلاقا من الذات وليس الموضوع الخارجي، قد انبثق من ثورة فلكية كان رائدها كوبيرنيكوس، فهو الشرارة الأولى التي انطلقت ومست كل القطاعات الأخرى. فما العلاقة التي تربط بين مؤسس الفلك الحديث ومؤسس الفلسفة الحديثة؟ سنحاول في هذه المقالة إثبات كوبيرنيكية ديكارت وكيف أن فهم فلسفته مرهونة بفكرة دوران الأرض.
#2#
1 - ديكارت وفكرة دوران الأرض
نشر كوبيرنيكوس في سنة 1543م وهو على فراش الموت كتابا هو "في دوران الأجرام السماوية" وهو كتاب يضم نظريته المعروفة بمركزية الشمس، وهي الفكرة التي تم قبولها بداية من طرف الكنيسة، نظرا لطابعها الافتراضي ولما ستسديه من ضبط للتقويم والحسابات الفلكية. لكن الأمر سينتشر كالنار في الهشيم وسيلتقط الفكرة مغامر وثائر وعبقري هو مؤسس الفيزياء الحديثة جاليليو (1564-1642) الذي دخل في نزاع مع الكنيسة لمدة 20 سنة وهو المدافع العنيد عن الكوبيرنيكية، بل هو الذي زج بها بشكل علني نحو الصراع، ببحثه عن الدلائل الملموسة وليس الرياضية فقط لإثبات مركزية الشمس، ولم يكتف بذلك، بل عمد على الكتابة بالإيطالية عوض اللاتينية لجعل أفكاره تصل إلى عامة الناس، وهو ما كلفه محاكمة أمست بكرامته وهو شيخ عجوز، جعلته يقضي ما تبقى من حياته في إقامة جبرية.. وهو ما أثر أيضا على الفيلسوف ديكارت المعاصر له، الذي طارده شبح غاليليو؛ حيث كان يعزم على إصدار بحثه "العالم" أو "بحث في الضوء" في سنة 1634. ولكنه بعد أن سمع ما حدث لجاليليو بسبب تأييده العلني لكوبرنيكوس، قرر أن يحرق كافة أوراقه أو على الأقل الاحتفاظ بها لنفسه دون أن يدع أحدا يطلع عليها. فكتابه هذا فيه كوبرنيكية واضحة، حيث يذهب فيه إلى أن الأرض تدور حول الشمس. لقد كان ديكارت لا يريد البتة الدخول في نزاع مع الكنيسة، بل كان يتودد لها عله يربح رهان تعويض الفكر القديم الأرسطي بالمنظومة الكوبيرنيكية الجديدة، وهو الأمر الذي جعله يمسك عن نشر الكتاب الذي لم ير النور إلا بعد وفاته بأكثر من ربع قرن
ولندع ديكارت يعبر عن مخاوفه في رسالة متم نونبر 1633 إلى صديقه الأب مرسن:
يقول: ".. أرسلت من يتحرى لي عما إذا كان كتاب (نظام العالم) لجاليليو موجودا بـ(ليد) و(أمستردام)، لما سمعت من أنه قد طبع في إيطاليا في السنة المنصرمة، جاءني الخبر بأن الكتاب طبع فعلا، ولكن جميع النسخ التي طبعت منه أحرقت في ذات الوقت (بروما) في ما حكم على جاليليو ببعض الغرامة. وهذا ما أدهشني كثيرا إلى حد أني عقدت العزم أو أكاد على إحراق جميع أوراقي، أو عدم اطلاع أي شخص عليها على الأقل".
ويستمر ديكارت في حديثه: "إني لا أتصور كيف أمكن أن يحال جاليليو، وهو الإيطالي، بل والمرغوب من طرف البابا على محكمة جنائية، لا لشيء سوى أنه أراد دون ريب أن يثبت حركة الأرض...".
ليصرح ديكارت بعد ذلك وبعبارة واضحة جدا: "وإني لأعترف بأنه إذا كانت فكرة حركة الأرض خاطئة، فإن جميع أسس فلسفتي ستكون باطلة كذلك". ثم يضيف أيضا: "وبما أني لا أحب أن يصدر عني بأي حال من الأحوال خطاب به أدنى كلمة مما تستنكره الكنيسة، فإني لأفضل أن ألغي كتابي هذا، على أن أصدره (مبتورا) معطوبا".
وفي نهاية رسالته يطلب ديكارت من صديق طفولته في مدرسة لا فليش "مرسن" رجاء بقوله: "أرجوكم أن تخبروني أيضا عما تعرفونه عن قضية جاليليو".
وفي رسالة أخرى إلى مرسن أيضا في أبريل: 1643
يقول: "إنك تعلم دون شك، أن جاليليو قد أدين منذ وقت قصير من قبل محكمة التفتيش، وحكم على رأيه المتعلق بحركة الأرض بأنه بدعة..".
ثم يقول أيضا: "ولكني سأقول لك أن كل الأشياء التي شرحتها بمصنفي ومن بينها أيضا هذا الرأي المتعلق بحركة الأرض، يرتبط بعضها بعضا إلى درجة يكفي معها أن تكون واحدة خاطئة حتى نعلم أن كل الحجج التي اعتمدتها فيه واهية، ورغم اعتقادي أن (هذه الحجج) ترتكز على براهين جد يقينية، وجد جلية فإني مع ذلك لا أريد مهما كان الأمر أن أؤكدها ضد سلطة الكنيسة".. وعندما قرر ديكارت معاودة الكتابة ثانيا قال لأصحابه إنه سيتحرك مقنعا.
2 - تداعيات الكوبيرنيكية على فلسفة الذات الديكارتية
إن التغير المذهل، الذي حدث مع كوبرنيكوس فلكيا، وقلبه للموازين، حيث الانتقال من الحس إلى العقل، من الموضوع إلى الذات، من العالم الخارجي إلى الإنسان، من الجاهز إلى البناء، إضافة إلى أن العالم الذي تنقله حواسنا، الذي كنا نثق بها، قد خدعتنا، فالعالم يبدو على شاكلة، بينما هو على شاكلة أخرى، سرع بالدعوة إلى الريبة، فالعالم لا يقدم حقيقته جاهزة، فالموضوع لم يعد مؤهلا لإعطاء الحقيقة، هذا ما دفع ديكارت إلى الدخول في مسيرة بحث عن الثابت الجديد (فالأرض لم تعد ثابتة، فهي تدور)، ومن تمّ رحلة شكه الشهيرة في كل شيء. هذا الشك الذي كان مشروعا وليس نزوة أو شكا من أجل الشك، شكا منهجيا، شكا من أجل البحث عن اليقين المفقود، عن الثابت الضائع، عن الصخر والصلصال بدل الأرض الرخوة. إنه شك أملته إهانة العالم للإنسان (إهانة الخدعة)، ومن يخدع ولو مرة واحدة مطالب بألا يتمادى في التصديق، وذلك بوضع الأشياء موضع تمحيص وتدقيق عله يحظى بنصيب من اليقين. وأثناء مسار شكه لم يستطع ديكارت الشك إلا في شيء واحد، إنه الشك نفسه، فالشك فرض وجوده، جثم عليه ولم يقدر التملص منه. وما الشك في نهاية المطاف إلا تساؤلات وتصورات وأفكار. والتي لا يمكن أن يكون منبعها العالم، الذي لا ينبس بأية كلمة، فهو قاصر وعاطل، فمنبعها الوحيد هو الذات الإنسانية. وحتى لو شككت في أنني أفكر، فمثل هذا الشك يقتضي أن أفكر أيضا، ومن تم عبارة الكوجيطو المشهورة: "أنا أشك، أنا أفكر، إذن أنا موجود". وبهذا خلق ديكارت الانسجام بين الكوبيرنيكية والفلسفة. فهو وجه الكوبيرنيكية، وجهة فلسفية، بحيث جعل الذات الإنسانية هي الأساس والمنطلق الجديد، هي المصححة لخداع الحواس. لكن كيف ﺫلك؟ إنها قضية المنهج العلمي وهو ما سنوضحه في المقالة المقبلة- إن شاء الله.
* أستاذ مادة الفلسفة/ المغرب