«كريدي سويس» وتعمّد الجريمة

إخفاء الأموال عن الحكومات جريمة. والتفنن في ابتكار أساليب تضليل السلطات وإخفاء المعلومات ممارسة وقحة لا يمكن أن تبرر تحت أي ذريعة. نهم بعض المصارف الدولية للودائع أدى بها إلى تقديم خدمات لا يمكن تصنيفها إلا تحت الممارسات المجرمة. إخفاء المعلومات المالية ظاهره العمل على تطبيق السرية المصرفية ومساعدة العملاء على إيجاد مخرج قانوني للتهرب الضريبي، والحقيقة أن مساعدة العملاء على التهرب الضريبي هو إحدى أشهر ذرائع إخفاء مصادر الأموال عن الجهات الرقابية. ما إن تحدث أزمة مالية إلا وتهرع المصارف إلى الحكومات للمساعدة والدعم، وهي تعلم جيدا أن هذا الدعم يأتي من أموال دافعي الضرائب، ضرائب تسهم هي بطريقة فجة وملتوية للتهرب منها، وعلى حساب مواطني هذه الدول البسطاء الذين لا يملكون سوى ما تقدمه دولهم من خدمات. كريدي سويس مصرف موجود بقوة على الساحة الدولية. وهذا المصرف السويسري قام بهندسة ملاذات لإخفاء الأموال عن الحكومة الأمريكية. كما قام بتقديم معلومات مغلوطة للحكومة الأمريكية بخصوص أموال تعود لمودعين يحملون الجنسية الأمريكية. وعلى الرغم من أن حجم الأموال لم يعلن، فإن التسوية التي تشمل الاعتراف بالذنب قد تصل إلى 2.5 مليار دولار أمريكي.
وكالعادة في مثل هذه المواقف، تنصلت الإدارة التنفيذية في كريدي سويس من ممارسات فروعها في العالم، وأنكرت علمها بما كان يحدث، إلا أنها أقرت بتحمل المسؤولية النهائية. التسوية المتوقعة ستنهي التحقيق، كما سيحافظ مصرف كريدي سويس (سويسري الجنسية) على رخصة عمله في الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنه من المتوقع أن يشهد المصرف متاعب لأن مبلغ التسوية سيخفض معدل ملاءته المالية لأقل من 10 في المائة، وهذا قد يضطره لجمع الأموال لتعزيز رأس ماله ليتوافق مع متطلبات بازل 3. كريدي سويس ليس المصرف الأول الذي يصل لحل تسوية لانخراطه في ممارسات قذرة ومشينة، فقبله إتش إس بي سي الذي قدم غطاء لتجار المخدرات في المكسيك، وستاندرد تشارترد الذي قام بعمليات مالية لصالح دول ومنظمات إرهابية، وباركليز الذي لا أعرف جريمة مالية لم يرتكبها، وطوكيو ميتسوبيشي الذي قدم خدمات مصرفية لدول إرهابية وغيرها الكثير. كما أن الغرامة المتوقع فرضها في الأيام المقبلة رسالة قوية للمصارف الدولية كافة ذات السلوك المجرم، أن الولايات المتحدة الأمريكية ماضية قدما في إعادة المصارف إلى جادة الصواب. فدور المصارف ليس إخفاء الأموال ومساعدة المجرمين على إخفاء أموالهم ومصادرها عن الدول، كما أن الدول لا تمنح رخصا مصرفية لتمويل الإرهاب والسفلة وقطاع الطرق. فدور المصارف تنموي تنظيمي بحت، ويجب ألا تخرج من هذا السياق بحثا عن أموال وعمولات وغيرها مما يلهث وراءه ضعاف النفوس.
لا تمنح الرخص المصرفية لمساعدة المجرمين على إخفاء أموالهم، كما لم يعد ممكنا أن تتذرع المصارف السويسرية بالسرية المصرفية لإخفاء مصادر أموال وقيم ودائع العملاء عن دولهم. إن تعمد إخفاء المعلومات عن السلطات جريمة حقيقية كاملة الأركان يترتب عليها آثار سلبية تستهدف الدول في صميم أمنها. وعلى المصارف الدولية أن تعي أنه لن يسمح لها أبدا بالخروج عن دورها التنموي والخدمي تحت أي ذريعة وحجة. إن اعتراف مصرف كريدي سويس بالذنب وقبول إدارته بالتسوية إنجاز يضاف إلى سجل إنجازات بنجامين لوينسكي الحاكم المالي لولاية نيويورك، فما نجح هذا الرجل في تحقيقه سيغير الواقع المالي للعالم كله، وليس للمنصف سوى الإشادة ببراعته وحنكته وصلابة موقفه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي