عدد السكان .. القوة الكامنة
كانت المملكة من أكثر الدول تسارعا في عدد السكان، لكن تغيرت هذه الحقيقة أخيرا، وبدأ منحنى خطير لانخفاض معدلات النمو السكانية! حيث يكاد النمو السكاني في المملكة أن يتوقف!
بلغ عدد سكان المملكة 27.1 مليون نسمة، وفقا لتعداد 2010م، عدد السعوديين منهم 18.7 مليون نسمة، يقابله 8.4 مليون مقيم. مقارنة بعدد السكان في 2004 الذي بلغ 22.7 مليون نسمة، منهم 16.5 مليون مواطن، مقابل 6.1 مقيم. الملاحظ زيادة عدد السعوديين بنسبة 19 في المائة خلال الفترة بين التعدادين، بينما قفز عدد المقيمين بنسبة 38 في المائة، فإذا ما استمر نمو السكان على الوتيرة نفسها خلال العقد المقبل فسيبلغ التعداد الإجمالي في 2020م نحو 37.2 مليون نسمة منهم 22.8 مليون مواطن مقابل 14.4 مليون مقيم!
وهذا مؤشر لبيت القصيد وهو متوسط معدل النمو السنوي للسكان السعوديين، حيث بلغ هذا المعدل وفقا لإحصائيات الأمم المتحدة 1.98 في المائة خلال الأعوام الخمسة السابقة لعام 2010م، بانخفاض شديد عن القرن الماضي حيث بلغ النمو 5.77 في المائة في السبعينيات و5.98 في المائة في الثمانينيات، أي بانخفاض يزيد على 50 في المائة.
ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة سيشهد نمو السكان في المملكة مزيدا من التراجع ليصل إلى 1.57 في المائة خلال الأعوام الخمسة السابقة لعام 2020م، ويستمر التراجع ليصل إلى 0.82 في المائة خلال الأعوام الخمسة السابقة لعام 2030م وهو المعدل الذي يعني انخفاض معدل المواليد للأسرة عن اثنين، بمعنى أن النمو السكاني سيكون سلبيا!
الانخفاض الحاد للنمو السكاني في السنوات الأخيرة، يعود إلى مجموعة من العوامل أبرزها؛ تأخر سن الزواج في المملكة، وارتفاع نسبة الطلاق، والإقبال على استخدام وسائل المباعدة بين الولادات، والتغيير في أنماط الإنجاب بين المتزوجات، خاصة اللاتي في العشرين والثلاثين من العمر، وزيادة تكاليف المعيشة الأصلية والتكميلية، وتغيير نمط العيش، وعمل المرأة.
في الغرب، خاصة في أوروبا، يعانون مشكلة كبيرة عنوانها الرئيس "تزايد متوسط أعمار السكان"، وهذه نتيجة للسبب الذي يعانونه وهو: انخفاض عدد المواليد، وهو مؤشر يتخوف منه الغربيون ويصنفونه بـ"الخطير" لأن خاتمته قد تكون نهاية أوروبا.
وعلى العكس تماما في الصين والهند ودول الشرق، فأحد عوامل القوة الرئيسة في الصين على سبيل المثال هو عدد السكان، وهي قوة بشرية لا يستهان بها، يحسب لها العالم ألف حساب.
أخيرا ظهرت أصوات تطالب بتخفيض هذا المعدل المنخفض أصلا، حتى أصبح مثل هذا الموضوع يناقش تحت قبة مجلس الشورى (وأتمنى أن أكون مخطئا)، وهي بادرة خطيرة وسابقة عاصفة في مسيرة دولة فتية تخطط للاعتماد على جيل شاب متعلم يتقد حماسا ووطنية وفتوة ورغبة في خدمة وطنه ومجتمعه، وفق قيم شريعته السمحة الراسخة.
المضحك المبكي في الأمر أن معدلات النمو السكاني التي تنحسر، يقابلها ارتفاع معدل الإنجاب للوافدين مقارنة بالمواطنين، وهذا مؤشر سلبي أيضا، ما قد يحدث معه خلل في البنية السكانية ومعدلات المواطنين مقارنة بضيوفنا الكرام من باقي دول المعمورة.
مشروع تخفيض معدلات النمو السكاني يتخذ ما يسمى "سياسة المباعدة بين الولادات" شعارا له، وهي ما تسمى مجتمعيا "تنظيم النسل"، وشعبيا "تحديد النسل"!
إن سياسة المباعدة بين الولادات، هي الآلية المتبعة دوليا لتخفيض النمو السكاني، وأخطر من ذلك أن يتم تبنيها كبرنامج وطني، بمعنى إيجاد حوافز للتطبيق، وترويجها إعلاميا وتعليميا، وتبني المؤسسات الصحية لها.
السؤال المهم؛ ما الذي يدعو البعض إلى دعم وتشجيع تبني مثل هذه السياسة في المملكة؟ يظن هؤلاء المؤيدون لهذا الأمر أن هذا هو الحل لاستنزاف موارد الدولة مثل الصحة والتعليم والسكن والغذاء والطاقة والمياه، بالتالي المبررات التي نتحدث عنها اقتصادية بالدرجة الأولى.
وهذا قد يكون صحيحا لو كنا ننظر إلى قطيع من حيوانات الزينة التي يحتفظ بها المترفون لأغراض التسلية، أما ونحن ننظر إلى المواطنين حيث يجب التعامل معهم كقوة وموارد بشرية وأداة من أدوات التنمية، فنحن نشخص التشخيص الخطأ، ونقع في الخطأ القاتل!
الخطأ القاتل أن نتعامل مع الموارد والطاقة البشرية كمشكلة تحتاج إلى حل، وليست فرصة تنتظر من يوظفها التوظيف الصحيح. فما بالنا نتجاهل قدرة البشر وطاقاتهم وحماسهم وإبداعهم والقيمة المضافة لهم والأفق الأرحب للتعامل معهم، وتقتصر نظرتنا لهم من "خرم الباب"، فلا نرى إلا مشكلة استهلاكهم للموارد؟!
الاستراتيجية المترتبة على مثل هذا القرار لن تؤثر في استهلاك الموارد، حيث إن تزايد استهلاك الموارد الوطنية كان بسبب عيوب ثقافية وتربوية أكثر منها كمية، فلما عجزنا عن التربية والتقويم وتغيير أنماط التعامل والتحفيز الذاتي والحكومي، قمنا نطالب بالتخلص من قوتنا البشرية!
إن مثل هذه النظرة القاصرة لا يتبناها إلا قيادي فاشل أو إداري جاهل أو إعلامي مقلد، عجزوا عن الاستفادة من الموارد وتوظيفها لمصلحة الوطن، لا يشبههم إلا من كان خازنا للخيرات فلما فشل في حراستها أحرقها!
إن من واجب الدولة وواجبنا كمجتمع أن نشجع النمو السكاني في المملكة، لا أن نعمل على خفضه، ولن يتأتى ذلك إلا بإقرار برامج ومشاريع وطنية لحماية المجتمع والأسرة والفرد، ورفع معدلات الخصوبة وعلاج إشكاليات تأخر الزواج والعنوسة والطلاق، وتحفيز الشباب من الجنسين على الزواج والإنجاب ومنح المرأة جميع التسهيلات للجمع بين التعليم والوظيفة والتربية وبناء الأسرة، وتبني برامج تحقق الحد الأدنى من الدخل لكل أسرة ولكل فرد فيها، حيث لا يعتبر المولود الجديد مشكلة بل فرصة وإضاءة للمستقبل، وقد قال تعالى: "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ"، (الإسراء: 31).
سيحقق ذلك أكثر من ميزة تنافسية للدولة، من أهمها تغطية الاحتياجات الأمنية والاقتصادية والمجتمعية وزيادة معايير الوطنية واللحمة الشعبية بين الحاكم والمحكوم، وصناعة قوة بشرية تكون الأكثر تأثيرا في المنطقة.
يبقى الدور الأبرز وهو تحسين سياسات وبرامج التعليم لتحويل المادة الخام إلى منتج ذي قيمة، ثم محفزات اقتصادية لتحويل هذه المنتجات البشرية إلى مجموعة من المحفزات الذاتية المتناغمة لصناعة الاقتصاد الكلي المنتج كموظفين ومبدعين ومنتجين وأرباب عمل، سواء في المؤسسات الحكومية المدنية أو العسكرية، التي هي أحوج ما تكون، أو في القطاع الخاص.