إدارة الاختلاف باعتباره تنوعا

الحوار ليس بداية الحل بقدر ما هو الحل نفسه، كما أنه لغة التفاهم ووسيلة الاتصال بين كل المخلوقات أيا كان شكله ومجاله وسياقاته، من هنا تبدو الأمور موضوعية أكثر حينما نتحدث عن طبيعة كونية اقتضت اختلاف البشر والثقافات وتباين المفاهيم والمعتقدات، والناظر بعين واعية يدرك أن هذا الاختلاف أيا كان نطاقه سواء دخل الأسرة أو المجتمع الواحد أو ضمن النسيج الإنساني العام ليس سوى شاهد استمرارية تنتج الفكر بالتلاقح ودليل حياة يحركها تعدد الأطياف واحتواء كل طيف على ملامحه التي ترسم وجودها في السماء الوجودي دون أن تفرض نفسها لونا وحيدا أو تصادر حق الأطياف في التلون ضمن إطارها الخاص أو الوجود في الإطار العام.
نظريا فالاختلاف حالة طبيعية، وعمليا فالحوار هو طريقة إدارة هذه الحالة ضمن سياق يستوعب جميع الأطراف المحتملة ضمن كلمة سواء، كما أنه الوسيلة الأكثر جدوى على مستوى صهر التباين الثقافي والحضاري ضمن بوتقة تستغل تنوعه إيجابا ولا تظلم هذا التنوع بإحالته لذريعة إقصاء واهية ضمن أنانية فكرية لا تتسع لأكثر من رأي واحد.
لقد رسخ الإسلام في جوهره الحقيقي مبدأ الحوار فجاءت به الآيات الكريمة في صورة محكمة بدءا من أعلى مثل ممكن حملته قصة أسمى حوار بين الله عز وجل والإنسان ممثلا بالنبي موسى عليه السلام، فضلا عن حضور النبرة الحوارية في مختلف تجليات القصص القرآني بطريقة تقرب الصورة للذهن وتشكل الوعي بالحدث، بل إن الثقافة التي يرسخها مفهوم كهذا تحيلنا دائما إلى متسع ذهني قادر دائما على مواجهة الحجة بالحجة ضمن نقاش هادئ الشكل مهما تضمن من صخب المضمون، يأتي الحوار أداة إقناع ووسيلة تعبير عن الحق، فلا يفقده اليسر قوته ولا يمنحه العسر إلا ضعفا، ولك أن تقرأ في الآية الكريمة احتواء اللغة القرآنية على مفردة الحوار، حتى حين كان الطرف المؤمن يواجه حالة الكفر الصريح ، يقول تعالى ( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً * لكِنّا هُوَ اللهُ رَبّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَدا) الكهف (73 - 38)
جاءت "وهو يحاوره"تأكيدا على استمرار إدارة الاختلاف رغم انتحائه لأخطر المراحل المعتقدية، ويأتي بعدها السؤال مقرونا بالحجة المتمثلة في نعمة خلق الله للإنسان وبدهية فكرة كهذه في ترسيخ وجوب الإيمان، لتأتي الفكرة التالية بالتعبير عن هذا الإيمان المترسخ في ذهن المحاور.
هذه الآيات ليست وحدها في تبيان المفهوم، غير أنني سقتها كنموذج للحوار بوصفه أدباً جاء به القرآن قبل أن يكتشف البشر فيما بعد كونه وسيلتهم الأمثل لاستيعاب تعدديتهم وتفعيلها كقيمة انسجام لا دافع اصطدام.
علينا أن نحاور أنفسنا أولا، ونبدأ من الأقرب فالأقرب، أن نؤسس الوعي بالحوار كحالة ثقافية عامة يحتاج تأصيلها قدرا كبيرا من العمل وقدرا أكبر من مواجهة الذات بمختلف مفاهميها بدءا من الفرد وامتدادا للمجتمع، علينا استيعاب أن الاختلاف لا يعني الخلاف بالضرورة، وأن لكل شيء حل لا يحتاج لإيجاد من العدم بقدر ما يحتاج لمن يكتشفه في نفسه قبل أن يكون ملهما له على مستوى غيره.
إذن فالخطوة الأهم هي تعزيز قيم الحوار وغرس أدبياته في صميم العقلية الاجتماعية باختلاف توجهاتها الفكرية ومستوياتها الثقافية، بنظرة بسيطة سنجد أن الجميع يختلفون لكن القليل منهم يفعلون ذلك بطريقة حضارية، سنجد أن الحوار ينزع في أحسن الاحتمالات إلى محصلات استبدادية من قبيل"أفحمته"أو"أسكته" دون أن تفكر ولا بأضعف الإيمان في مفردات على نحو"أقنعته"أو"اتفقت معه" السبب لا يرجع لقلة الوعي بقدر ما يرتبط مباشرة بقيم اتصالية مفقودة لم تجد من يكرسها أسرياً أو تعليمياً، في حين تراكم الفهم الخاطئ للاختلاف بوصفه حالة نزاع مؤجل أو مشروع تصعيد لا يستوعب التأدب بقدر ما يتبنى "التأديب"بمعناه العربي المعتاد وليس بحقيقته اللغوية المحضة.
هيثم السيد
شاعر ومحرر صفحة الثقافة بـ "الاقتصادية"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي