الميزانية أكدت الحاجة إلى الأمن الإعلامي الاقتصادي
يُنظر ويفسر بعض عمالقة الاقتصاد الحديث جميع المظاهر الاقتصادية خيرها وشرها، كالتباطؤ الاقتصادي والكساد أو عكسه كالازدهار والطفرات على أنها نتيجة حتمية لتوقعات وتنبؤات أفراد المجتمع الاقتصادي بجميع أطيافه، سواء الحكومي منها أو الخاص، المستثمر أو المستهلك لا فرق بين هذا أو ذاك فالجميع يُقاد بالتوقعات، سواء أكانت هذه التوقعات توقعاته هو نفسه أم توقعات غيره، ولا فرق بين أن تكون هذه التوقعات مبنية على علم ودراية ورؤية واقعية أو تكون قد بنيت على تصورات جهل مركب.
وفي بعض المجتمعات، حيث يكون الإعلام الاقتصادي إعلاما حديثا نسبيا، فإن الهيمنة عليه من مصادر معينة خارجية كانت أو محلية هو أمر سهل وهو الواقع فعلا في المجتمع السعودي وخاصة إذا أضيف إلى ذلك صعوبة وتعقيدات علم الاقتصاد الحديث وقلة المتمكنين فيه مع كثرة المدعين له.
كم تداولت وسائل الإعلام الاقتصادي في بلادنا وأسهمت في السنتين الماضيتين في نشر معلومات كثيرة خاطئة عن الربط بالدولار أو زيادة الرواتب وكم سهلت التلاعب بسوق الأسهم ثم الانهيارات التي حدثت بعد ذلك. وفي هذه الأزمة فإن المراقب سيلاحظ مواصلة الإعلام الاقتصادي في نشر الرعب والهلع في نفوس الناس والإصرار على وأد كل محاولة صادقة من الدولة لتنشيط الاقتصاد ، بداية من تجاهل وعدم الاستثمار الاقتصادي الإعلامي من تعهد الملك الصالح في قمة العشرين في واشنطن أمام العالم وانتهاء بتصوير الميزانية كميزانية تنوء بالعجز ويلفها الغموض.
إن قلة الوعي الاقتصادي وحداثة الإعلام المعني بشؤونه وانتشار الإشاعات لقلة المعلومات وفرض المحسوبية وذكريات الفساد الإداري قد خلقت محيطا مُحبطا أفقد الثقة بالإعلام الاقتصادي الوطني وفسح الطريق لهيمنة الإعلام الأجنبي المتلبس بلباس الديكورات الجميلة والمدعوم بالأموال الوطنية، فتاهت الاستقلالية الاقتصادية الفكرية، وأصبحت غالب قنوات إعلامنا الاقتصادي ببغاوات تردد ما تسمعه وتقرأه من تلك الجهات.
الميزانية السعودية التي جاءت بأعظم إنفاق في تاريخها مقترنة مع أحد أعظم فوائض مالية متوافرة على مستوى دول العالم أجمع وليس فقط في السعودية قد تحولت إلى ميزانية منخفضة عن العام السابق وعاجزة عن تدبير الأموال اللازمة وذلك بكيد أو ببلاهة الاستجابة الإعلامية لأرقام الميزانية خاصة في اليوم الأول الذي ترك أثره إلى اليوم. إن التفسير الأولي للميزانية من بعض هذه القنوات قد قتل الأثر الإيجابي والأهم من هذه المعلومات وهو تحسين التوقعات فأصبحت الدولة الآن تعمل وحدها دون إعانة لا من الناس ولا من القطاع الخاص في انتظار تحقيق ما نصت عليه الميزانية.
في زمن الحروب تضع وزارة الدفاع متحدثا رسميا لها يخبر الناس على مدار الساعة بحقائق الأمور من أجل قطع دابر الإشاعات واستتباب الأمن فيتحقق النصر في الميدان. ونحن في هذه الأيام تُشن علينا حرب اقتصادية إعلامية خفية قذرة لزجنا في أزمة مالية عالمية لا ناقة لنا فيها ولا بعير. بل على العكس، فبترولنا في أرضنا يرتفع ثمنه وقيمته مع مرور الأيام وأما سلع العالم وخدماتهم فقد أصبحت بخسة الأثمان تتسابق إلينا وقيمتها متوافرة أضعافا مضاعفة ومكتنزة في سندات أمريكية ستتناقص قيمتها في المستقبل. فمن مصلحتنا عدم بيع البترول الآن وحفظه للمستقبل لبيعه بأغلى الأثمان بينما نستغل هذه الفوائض بقيمتها الشرائية الحالية في شراء ما نحتاجه بأثمان بخسة قبل أن تكون للأمريكي خطة في تخفيض قيمة الدولار فقد فعل أعظم من ذلك عندما نقض معاهدة برتن وود عام 1971م.
لماذا يزج بنا إعلاميا في أتون خسائر الأزمة المالية! لماذا أُغفلت مبادرة الملك الصالح الاقتصادية في أمريكا ولم يوضح المقصود منها بشكل علمي مبسط بينما أخذت مبادرة حوار الأديان حقها من التغطية الإعلامية؟
لماذا يُساء استخدام مصطلح العجز(والذي لا حقيقية له) من قبل الإعلام الاقتصادي ويُساء استخدام مصطلح الدين العام من قبل الإعلام الاقتصادي ونحن نتمتع بفوائض مالية تساوي 170 في المائة من الناتج المحلي للعام السابق 2007، بينما تعظم وتكبر ميزانية البابان ولا يذكر عجزها وهي التي تئن لسنوات من العجز الحقيقي الكبير الذي يُسدد بزيادة الدين العام الذي وصل إلى 170 في المائة من الناتج الياباني المحلي أي ما يزيد على 8 تريليونات دولار مسجلة كدين عام على اليابان؟
لماذا تصور خسائر الصناديق السيادية التي قُدرت بنصف تريليون دولار (500 مليار) على أنها ضياع لممتلكات دول الخليج الأجنبية بينما لا تملك السعودية إلا صندوقا سياديا حديثا أسس عام 2008م قيمته لا تتجاوز خمسة مليارات؟
بلادنا قد حققت أرباحا طائلة ببيعها البترول بأسعار مرتفعة خلال فترة الازدهار الاقتصادي التي مرت به أمريكا والذي عاش على نفخ أسعار البيوت والأسهم والسندات في السنوات الثمان الماضية على حساب جيوب الاستثمارات الأجنبية وعندما حان الوقت واتسع الشق وتجاوز الحد وبعد أن استفاد الاقتصاد الأمريكي من هجرة الأموال الدولية إليه شُطبت آلاف المليارات من الديون ومن أرباح العالم واستحقاقاتهم ومن ضمنها نصف قيمة الصناديق الخليجية السيادية وأدخلت أمريكا العالم أجمعه معها في هذه الأزمة المالية بينما اصطدمت بفوائض السعودية المالية والتي لا يمكنها شطبها إلا أن تعلن الحكومة الأمريكية إفلاسها (حيث إن معظم الفوائض في سندات حكومية أمريكية).
الفوائض النقدية السعودية هي التي ستمنح بلادنا استقلالية في سياسة البترول وتخفيض الإنتاج وهذا ما لا يريده العالم الخارجي. الفوائض النقدية السعودية هي التي ستمكن هذه البلاد من بناء اقتصاداتها بأرخص التكاليف وأجود النوعيات وهذا ما يثير حقد الحاقدين من الأقربين والأبعدين. الفوائض النقدية السعودية هي التي ستعين البلاد على إتمام المشاريع الطموحة المخطط لها مما سينقل كثيرا من الأعمال والمصانع التي هي الآن خارج حدود الوطن إلى داخله وهذا ما أقلق الكثير.
البلاد بحاجة إلى متحدث رسمي أو مركز بحوث يملك المعلومة والمصداقية لكي يفند الإشاعات (كضياع الموجودات النقدية) ويوضح التلبيس والتدليس الذي تمارسه بعض وسائل الأعلام كما حدث مع الميزانية الأخيرة، ويحيي الأخبار الجيدة الداعمة للاقتصاد كما حدث من عدم التغطية المناسبة في وقتها لتصريحات الملك في واشنطن وتصوير الاقتصاد على حقيقته من أجل ألا يتكرر ما حدث في الطفرة من تفاؤل مفرط ولا ما يحدث الآن من التشاؤم المفرط.
يغلب على المجتمع الاقتصادي الناضج تنوع الآراء، فقد ترى قناتين كل منهما تتحدث عن وضع ما في نفس البلد وكأنهما تتحدثان عن بلدين مختلفين بينما نحن هنا فإن أغلب الإعلام تبع لقناة واحدة. في المجتمع الاقتصادي الناضج لا يصمد عادة في الإعلام الاقتصادي من ليس له باع وعلم عميق في الاقتصاد بينما عندنا هنا فالعكس هو الصحيح. وهناك في ذلك المجتمع الاقتصادي الناضج يظهر كبار مسئولي الخزانة والاحتياطي الفيدرالي في قنوات الإعلام وفي التصريحات الرسمية بشكل دوري حتى لا يكاد يمر أسبوع من غير ظهور لهم هنا أو هناك أما عندنا فظهور ذي العلاقة كهلال العيد من حيث الندرة ومن حيث فرح الناس واهتمامهم به.