المناطقية والعصبية الذكية
لقد تناولت في مقال سابق الحقبة الجاهلية, مَن بعثها مِن مرقدها! وذكرت بعض صور وأسباب التعصب القبلي المقيت وخطورته على النسيج الاجتماعي، إلا أن الحق يملي علينا أن نقرر أن هذا التعصب ليس إلا صورةً من صور قابلية التفتت والانشطار، وأن ثمة صورا أخرى يجب أن نسلط الضوء عليها علها تتضح تجلياتها في مجتمعنا ومن ثم نتلمس الحلول والبدائل التي تسهم في علاجها.
إن من المؤلم أنه في حين نرى الشعوب والأمم من حولنا تزداد تكتلاً واجتماعاً واتحاداً نرى بني جلدتنا يبدعون في صناعة التعصب والتشرذم، وهدر الطاقات ونسف المقدرات.
إن التشطر والتشظي مرضٌ مزمنٌ وعلةٌ مستفحلةٌ تظهر أعراضها في شكل دمامل وخُرّاجات في جسد مجتمعنا اليافع الفتي في صورة التعصب القبلي تارة وفي صورة المناطقية تارة أخرى.
هذه الخُرّاجات نذيرُ علة باطنية تستدعي مبضع الجرّاح الذي يقوم بفتحها وتنظيفها وعدم إهمالها وإلا ازداد تقيحها وتفاقم خطرها، وربما أودت بصاحبها وأعطبت جسده.
ولئن كانت العصبية القبلية صريحة في طرحها القبلي الجاهلي صراحة البدوي في صحرائه وخلف قطيع إبله، فإن ثمةَ رابطةٌ عصبيةٌ أخرى تنخر في مقدرات الوطن ومكتسباته، لكنها عصبية ذكية دبلوماسية لا تصرح بمبادئها كما تفعل العصبية القبلية.
هذه العصبية هي المناطقية التي تعمل بشكل ذكي مدروس الخُطى، بعيد المدى ولعلها استعارت شعار (بطيء لكن أكيد المفعول).
أقول إن العصبية القبلية التي تناولتها في المقال السابق كانت واضحة الأسباب, واضحة المظاهر, صريحة في طرحها صراحة تأبط شراً - وهو من صعاليك العرب - التي أعلنها بكل وضوح وشفافية في صياغة فلسفته في الحياة إذ يقول:
درى الله أني للجليس لشانِئٌ
وتبغضهم لي مقلةٌ وضميرُ
وإني لأستحيي من اللهِ أن أُرى
أجرجر حبلاً ليس فيه بعيرُ
ولا أسأل النذلَ البخيلَ بعيـرَه
وبُعران ربي في البلاد كثيرُ
فقطع الطريق أو (الحنشلة) هنا قيمة عليا لدى تأبط شراً يؤمن بها ويعلنها صريحة، والأمر لا يستدعي في تقديره المناورة أو المراوغة وتسول الآخرين، بل ما عليه إلا أن يأخذ حبله ويستولي على ما يشاء من قطعان الإبل التي تملأ الأرض ، فهذه (البعارين) ملك لله. وهؤلاء الصعاليك كانوا يكرمون الضيف ويطعمون الجائع وعابر السبيل وهم بهذا قد جمعوا بين نبل الغاية وسوء الوسيلة, يقول أحدهم:
فراشي فراش الضيف والبيت بيته
ولم يلهني عنه غزالٌ مقنعُ
هذه فلسفة تأبط شراً، وهذه رؤيته في الحياة، وعلى الرغم من إيغالها في مخالفة النظام والقانون إلا أن فيها ميزة واحدة وهي الصراحة والشفافية، مما يوفر مساحة كبيرة لدراستها ومعالجتها ومناقشتها معه لكن هذه الصراحة وهذه الشفافية كانت ضريبتها بالنسبة لصاحبها تأبط شراً الإقصاء والتغييب والتهميش، وهذا ما قرره تأبط شراً في نهاية هذه الأبيات إذ يقول:
عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى.. وصوَّت إنسـانٌ فكــدتُ أطيرُ
مسكينٌ أنت يا تأبط شراً! إن الأمر لا يستدعي كل هذه الصراحة وكل هذا الاندفاع والتهور! كان بإمكانك أن تأخذ البعير، بل (الذود) كله (بعصاه) فتقتسمه أنت وأبناء منطقتك دون التصريح بمبادئك، وبعيداً عن هذه التلقائية الغبية!!
إن الأمر لا يحتاج سوى جرعة من الذكاء الاجتماعي والدبلوماسية والتوشح بالفضيلة أو العلمية التي تضمن أن ينقاد لك البعير و( يدرهم ) باتجاهك دون أن تحتاج إلى الحبل أصلاً !!
ثم بعد هذا دعوني أتناول مظاهر المناطقية في شكل تساؤلات حائرة :
- قُرّائي الأعزاء. من يفسر لي تجمع أهل مناطق معينة في دوائر حكومية معينة ؟ فتجد اللوبيات تملأ ردهات الوزارات والمنشآت، فهذه الوزارة فيها أهل تلك المنطقة وتلك المؤسسة فيها أهل تلك المنطقة!!
وهذا – حتى أكون منصفاً وغيرَ مبالغٍ – ليس باطراد في كل الأجهزة والإدارات والوزارات لكنه موجود في صور تكتلات هنا وهناك، ولا تخلو منه حتى المؤسسة الدينية! فعلى مستوى الأئمة والخطباء نجد على سبيل المثال هناك عوائل أو مناطق متخصصة في الخطابة، مع أننا لم نر فيها مزيد فصاحةٍ ولا بيانٍ، بل هم من عامة الناس فيهم الفصيح وفيهم دون ذلك، كانوا طرائق قدداً!
ولا شك أن هذه المناطقية واستشراءها في مؤسسات المجتمع ستكون في جانب كبير منها على حساب الكفاءة والأهلية - إذ المعيار والمحك هو المناطقية لا الجدارة والاستحقاق - وهو ما سينعكس سلباً على الإنتاج والتنمية في مجتمعنا، التي يجب أن تكون مصلحته فوق كل هذه الاعتبارات المناطقية, ناهيك عما ينجم عنه ابتداءً من الظلم وبخس حقوق الآخرين!
ومن صور المناطقية أن بعض الإخوة المذيلة أسماؤهم باسم القبيلة يشتكون من إقصاء وتغييب يمارسه المناطقيون تجاههم، مما اضطر بعضهم إلى الاكتفاء باسم العائلة وحذف اسم القبيلة حتى يستطيعوا أن يأكلوا عيشا مع الناس! ولتذهب القبيلة إلى الجحيم!
ومن صور المناطقية شيوع لغة التعميم في الأحكام وهي لغةٌ تعمل أول ما تعمل على إلغاء العقل وتهميش التفكير، فنجد بعض العبارات والأحكام المعلبة الجاهزة!، أهل منطقة كذا فيهم كذا، وتلك المنطقة فيهم كذا، ثم تنداح وتنساب هذه القائمة الطويلة من الأحكام المُبغّضة لبعضنا البعض وتجري مجراها النكت والتندر بمناطق معينة! مع أن العقل يشهد والتجربة تثبت أن التميز والطيب ليسا حكراً على أحد ، وأن في كلٍ خيرا و(كلٍ عطاه الله من هبة الريح).
وأخيراً: فإن ثنائية الجاهلية (القبلية والمناطقية ) أمراضٌ كالسلِ والجربِ ! أمراضٌ تفتك بالمجتمع، لكنها أمراضٌ ليست مميتةٌ ولا مستعصية ولذا: علينا جميعاً استشعار نعمة الله ـ عز وجل ـ في إيجاد هذا الكيان الموحد لنا جميعاً، فقد جمعنا الله بعد فرقة، وأغنانا بعد فقر، وأعزنا بعد ذلة ، ثم تأملوا هذه الثنائيات المتضادة لعلها تنفض الغبار عن عقولٍ رانت عليها العصبية والمناطقية! علينا جميعاً استشعار المسؤولية ومراقبة الله ـ عز وجل ـ في تولي الوظائف العامة، ولئن كانت القبلية والمناطقية أمراضا فإن الإيمان إكسير الحياة.
دعونا نعمل على نشر ثقافة الحب والاندماج في بعضنا بعضا
دعونا ننظر إلى ذلك الطيف من التنوع الاجتماعي بإيجابية
دعونا ننظر إلى تلك الفضاءات الكبيرة, التي تجمعنا
دعونا نركز على ما يجمعنا لا على ما يفرقنا
دعونا نحب بعضنا بعضاً
فإن لم يكن الحب فليكن التراحم بيننا
أم ترانا نزهد في هذه المعاني الجميلة؟
فنستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير!
خاطرة:
ماذا أحدّثُ عن صنعاء يا ابتي
مليحةٌ عاشقاها السلُ والجربُ!