فرض رسوم على السيارات الصينية كان الجزء السهل لأوروبا

استمتعت لساعات طويلة خلف عجلة القيادة هذا العام، ولكن لم يكن ذلك على أرض الواقع؛ فأنا أعيش في باريس حيث لا تمتلك معظم الأسر، بما في ذلك أسرتي، سيارة. قيادتي كانت في ليبرتي سيتي، المدينة الخيالية التي تجري فيها أحداث لعبة الفيديو "غراند ثفت أوتو" (Grand Theft Auto). دعنا من العنف غير المبرر، لكن اللعبة لا تتطلب رخصة للقيادة، ولا يوجد بها زحام مروري، ولا حاجة للاعبها أن يغادر منزله؛ فهل في هذا ما يمكن ألا يعجبك؟ في الواقع هناك كثير قد لا يعجب شركات صناعة السيارات في ذلك، حيث تعرضت لضغوط خلال المشاركة في معرض باريس للسيارات الذي يُقام كل عامين بالعاصمة الفرنسية.
هذه الضغوط تعززت بعدما فرضت المفوضية الأوروبية رسوماً جمركية على السيارات الكهربائية الصينية، وسط مخاوف من زيادة المعروض منها. وأصبح مصدر القلق الحقيقي الآن هو ضعف الطلب على سيارات القارة التي خرجت منها سيارات مثل "فولكس واجن بيتل" و"فيات 500". ويأتي كل هذا في ظل تراجع معدل تسجيل السيارات الجديدة، وتراكم التحذيرات بشأن الأرباح من شركات مثل "فولكس واجن" و"ستيلانتيس"، علاوة على تهديد الوظائف.

زيادة أسعار السيارات

يمكن القول إن زيادة أسعار السيارات هي نذير الخطر الواضح على الأزمة بعد انحسار الجائحة وخفض الدعم الموجه للسيارات الكهربائية، حيث ارتفع متوسط الأسعار في أكبر 5 أسواق أوروبية 33% منذ 2019، بحسب مايكل دين من "بلومبرغ إنتلجنس"، في حين لم تواكب الأجور تلك الوتيرة كما هو واضح. وقد يكون خفض أسعار السيارات الكهربائية إلى نطاق 25 ألف يورو (27 ألف دولار) مثل "رينو آر5" هو المنقذ للقطاع، وإن كان ذلك المستوى -الذي يوازي 10 أمثال أوسط قيمة الدخل الشهري المتاح للإنفاق لدى الأسر الفرنسية- لا يزال مجرد خطوة صوب نقاط سعرية أقل.
في الوقت نفسه، تتوقع شركة "سي-وايز" (C-ways) للاستشارات في باريس، أن تبدأ سوق السيارات بصفة عامة في الانكماش؛ حيث نما إجمالي مخزون السيارات في فرنسا بنسبة 0.5% سنوياً في المتوسط منذ 2018، وسيستقر دون نمو هذا العام، قبل أن يتراجع على مدى العقد المقبل، بحسب تقديرات الشركة.
تكمن المشكلة في أن من يحتاجون السيارات لا يستطيعون بسهولة شراء سيارة جديدة، لذلك يتجهون إلى سوق السيارات المستعملة. أما من يستطيعون تحمل تكلفة السيارات الجديدة فليسوا دائماً بحاجة لها. ومنذ 2011، تضاءل عدد السيارات في باريس، المدينة المزدحمة التي يمكنك فيها استخدام الدراجة بكل سهولة، أما في أكبر 8 مدن فرنسية غير باريس، فقد توقف عدد السيارات عن النمو بعد 2018، وكما أثبتت مظاهرات حركة السترات الصفراء في ذلك العام، فإن اعتماد سكان الضواحي الخارجية على القيادة يمكن أن يؤدي إلى معارك سياسية صعبة.
ولا عجب في تغير علاقة الناس بالسيارات، لتتحول إلى أداة بعدما كانت رمزاً للثراء والوجاهة الاجتماعية. في بداية الشهر الحالي، أعلنت عمدة باريس، آن هيدالغو، خفض الحد الأقصى للسرعة على الطريق الدائري المحيط بالعاصمة الفرنسية.
بل وهناك كلمة بالفرنسية تعني التنقل بالسيارة منفرداً"autosolisme"، وهو ما كان أمراً رومانسياً في ما مضى لكن هناك محاولات حالياً لإثناء الناس عنه لأسباب بيئية، فقد تغير كثير منذ السبعينيات حينما تضمن الفيلم القصير "سي تيه" (C’etait) جولة مثيرة بالسيارة لمدة 8 دقائق في شوارع باريس وقت الفجر.

سمات سائقي السيارات

بالحديث عن السبعينيات، يتراجع الطلب على السيارات أيضاً بسبب عوامل ديموغرافية، حيث ارتفعت نسبة قائدي المركبات بعمر 55 سنة أو أكثر، في حين انخفض عدد الشبان الذين يمكنهم القيادة حالياً مقارنة معه قبل 30 عاماً، بحسب ما نقله محللو شركة "بيرنشتاين ريسيرش" عن بيانات أمريكية وبريطانية. ومن بين أسباب ذلك تحسين توافر وسائل النقل العام، والميل إلى تأجيل الأهداف الرئيسة في الحياة مثل ترك منزل الأبوين وتكوين أسرة، وقضاء وقت أكثر أمام الشاشات، وهو ما يشمل ممارسة ألعاب مثل "جي.تي.إيه" (GTA).
كما يمكن أن تضع مدارس تعليم القيادة عوائق أمام أولئك الذين يطمحون إلى قيادة السيارات، بدءاً من تكلفتها ووصولاً إلى قوائم الانتظار الطويلة للخضوع للاختبار، التي ترتبت على الجائحة. أما أولئك الذين رسبوا في الاختبار مرتين أو ثلاثة (أو حتى خمسة) فسيكون الأمر كالمشي على الجمر، أكثر منها مناسبة لبدء مرحلة جديدة في حياتهم. يعني انخفاض عدد قائدي السيارات الجدد الذين يدخلون السوق، حركة أقل في البيع والشراء، وأن تصبح السيارات قديمة بدلاً من أن تصبح خضراء، إذ ارتفع متوسط عمر السيارات المستخدمة على الطرق لمستوى قياسي في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا.
يرى المتفائلون أن الأمر قد لا يعدو ببساطة كونها حالة نمو مؤجلة، حيث يرجئ الأفراد شراء السيارة والقيادة إلى مراحل لاحقة في أعمارهم. وبالنسبة للحديث عن أن استخدام السيارات قد بلغ ذروته، فقد اشترى الألمان أكثر من 2.8 مليون سيارة العام الماضي، وهو أقل بنسبة 18% عن مستويات العام 2019، لكنه ليس نهاية العالم بالنسبة للسيارات.
لا يزال صانعي السياسات في بروكسل، التي شهدت انخفاضاً في أعداد السيارات هي الأخرى، يستعدون لمخمضة في الصناعة. في ظل وجود أسباب كثيرة لتأجيل شراء سيارة جديدة، بل وأسباب أكثر لتفادي التحول إلى سيارة كهربائية، فإن تحقيق هدف صافي الانبعاثات الصفري يواجه عراقيل. كان من المفترض أن يؤدي وجود قواعد أوضح، مثل حظر محركات الاحتراق الداخلي بحلول العام 2035، إلى صدمة إيجابية في الطلب، إلا أن صانعي السيارات يحشدون بقوة لمناهضة ذلك الحظر، في حين تقلص الدول الدعم المهم للسيارات الكهربائية

تفادي الإضرار بقطاع السيارات

بعض الخطوات تبدو ضرورية لتفادي وقوع ضرر جسيم للقطاع؛ إحداها طرح سيارات كهربائية أرخص وأصغر تُصنع محلياً. وبحسب تقرير شارك في كتابته برنار جوليان من "جامعة بوردو" فإن الفجوة التنافسية بين فرنسا والصين تُقدر بنحو 5 %، ويمكن سدها عن طريق توفير طاقة أرخص، وتقديم محفزات أكبر للطلب. وأمر ثان هو وجود قواعد تنظيمية محكمة، خصوصاً أن رؤية شركات صناعة السيارات نفسها وهي تتراجع عن مقاييس صافي الانبعاثات الصفري، لا يُشعرنا بالثقة.
وختاماً إطلاق مسعى لإحياء ثقة المستهلكين يبدأ بتقديم مزيد من حزم الدعم الموجه على السيارات، وخفض البنك المركزي الأوروبي لأسعار الفائدة. فبعد المحصلة، لا يسعنا سوى الأمل أنه بحلول موعد إصدار النسخة الجديدة من لعبة "جي تي إيه" العام المقبل، سيكون ركوب المرء لسيارته في الواقع أمراً أكثر جاذبية.

خاص بـ"بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي