كيف توفق دول الخليج بين الاتفاقيات الثنائية مع واشنطن واتحادها الجمركي؟
هل سقطت أحلام الرئيس بوش بإقامة منطقة التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة والدول العربية من جهة أخرى؟
في يوم 9 أيار (مايو) 2003 أعلن الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش مبادرة لإنشاء منطقة للتجارة الحرة في الشرق الأوسط بحلول عام 2013. وتهدف هذه المبادرة إلى ربط كل من الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة و22 دولة عربية من جهة أخرى باتفاقيات للتبادل التجاري الحر مشابهة لما حصل في أمريكا الشمالية والمسماة NAFTA بحيث تقوم الولايات المتحدة بتوقيع اتفاقيات ثنائية مع كل دولة على حدة، ثم تجمع هذه الاتفاقيات في اتفاقية واحدة. وقد حددت الأهداف المعلنة لتلك المبادرة بما يلي:
- مساعدة دول الشرق الأوسط على الانخراط في منظمة التجارة العالمية.
- توسيع نظام الأفضليات المعمم الأمريكي الذي يسمح بدخول أكثر من 3500 سلعة للولايات المتحدة دون رسوم جمركية بحيث تستفيد منه دول الشرق الأوسط.
توسيع وتنويع التجارة والاستثمار بين الولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط وإيجاد آليات لحل ما ينتج عن ذلك من منازعات.
- تشجيع دول الشرق الأوسط على الانفتاح الاقتصادي وتبني برامج للإصلاح.
وبشكل عام فإن الهدف المعلن لهذه المبادرة هو زيادة التجارة والاستثمار مع دول الشرق الأوسط ومساعدة هذه الدول على تنفيذ الإصلاحات الضرورية وسيادة دولة القانون وحماية الملكية بما في ذلك الملكية الفكرية وإيجاد أرضية مناسبة للانفتاح والنمو الاقتصادي والرخاء.
وينبغي القول إن تلك المبادرة كانت قد أطلقت في أوج سيطرة المحافظين الجدد على قرارات البيت الأبيض وقد كانوا يؤمنون بنظرية "الفوضى الخلاقة" وإعادة هيكلة الشرق الأوسط. لذا فإن من الأهداف غير المعلنة لتلك المبادرة ما يلي:
دمج إسرائيل في المنطقة العربية اقتصادياً، إضعاف الدول الرئيسية في المنطقة واحتواء دورها الإقليمي بحيث يسهل التأثير في قراراتها واحتواء مبادراتها. وفي هذا الصدد استعملت الولايات المتحدة عدداً من أساليب الإقناع للتأثير في بعض دول مجلس التعاون للدخول في هذه المبادرة ومن ثم إضعاف مجلس التعاون والتأثير السلبي في القرار الذي اتخذه لتوه بتدشين اتحاده الجمركي.
كسب المنافسة التجارية مع الاتحاد الأوروبي الذي كان يسعى هو الآخر لتوقيع اتفاقيات للتبادل التجاري الحر مع مجلس التعاون وغيره من بقية الدول العربية.
كشف حساب:
بعد ست سنوات من تلك المبادرة، ماذا تحقق؟
وقعت الولايات المتحدة اتفاقية للتبادل التجاري الحر مع إسرائيل ودخلت هذه الاتفاقية حيز التنفيذ منذ عام 1985، أي قبل المبادرة.
وقعت الولايات المتحدة اتفاقية للتبادل التجاري الحر مع الأردن ودخلت حيز التنفيذ منذ عام 1990، أي قبل المبادرة.
وقعت الولايات المتحدة اتفاقية للتبادل التجاري الحر مع مملكة البحرين في عام 2004 ودخلت حيز التنفيذ في عام 2006.
وقعت الولايات المتحدة اتفاقية للتبادل التجاري الحر مع سلطنة عمان في عام 2005 ولم تدخل حيز التنفيذ إلا في الشهر الماضي من هذا العام (2009).
دخلت الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة في مفاوضات لتوقيع اتفاقية للتبادل التجاري الحر في عام 2005، ولكن هذه المفاوضات توقفت في العام التالي.
دخلت كل من مصر والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في ترتيبات تعرف بـ "المناطق الاقتصادية المؤهلة" – كويز- QEZ يتم بموجبها إدخال منتجات المصانع المقامة في مناطق مصرية محددة إلى السوق الأمريكية دون رسوم جمركية إذا اشتملت مكوناتها على نسبة معينة من المنتوج الإسرائيلي. إلا أن الطرفين (المصري والأمريكي) لم يدخلا في مفاوضات مباشرة لوضع اتفاقية للتبادل التجاري الحر، رغم محاولة ذلك من قبل أحد الأطراف.
السياسات التجارية للإدارة الأمريكية الجديدة وعلاقتها بالمبادرة:
بمتابعة المعلومات المتوافرة حول السياسات التجارية للإدارة الأمريكية الجديدة يمكن القول:
إن الأزمة المالية الحالية لها الأولوية على قضايا تحرير التجارة بما في ذلك إمكانية الوصول إلى نتيجة مرضية لجولة الدوحة لدرجة أن الرئيس أوباما لم يعلن حتى الآن اسم مرشحه للتفاوض التجاري (بدرجة وزير).
إن الكونجرس الأمريكي منقسم على نفسه فيما يخص تحرير التجارة، كما أن الحزب الديمقراطي الذي يتمتع بأغلبية داخل الكونجرس منقسم هو الآخر حول الموضوع نفسه.
إن لدى الحزبين الرئيسيين في الوقت الحاضر ميولاً حمائية ظهرت جليةً أثناء مناقشة البرنامج الذي اقترحه الرئيس أوباما لانتشال الاقتصاد الأمريكي من حالة الركود الذي يمر بها حالياً. كما أن الرئيس أوباما نفسه قد أظهر ميولاً حمائية أثناء حملته الانتخابية.
معنى ذلك كله أنه في الوقت الذي يتوقع فيه أن تحترم الولايات المتحدة التزاماتها في إطار منظمة التجارة العالمية فإن الخبراء مجمعين على أننا بشكل عام لن نرى في الأربع سنوات المقبلة من حكم الرئيس أوباما أية اتفاقيات ثنائية جديدة للتبادل التجاري الحر بين الولايات المتحدة وأية دولة أخرى، بما في ذلك بقية دول الشرق الأوسط. بل يذهب بعض الخبراء إلى الاعتقاد بأن اتفاقية التجارة الحرة الأمريكية الشمالية – نفتا - قد يعاد التفاوض بشأنها. وقد زاد ذلك من مخاوف كندا التي تعد الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة وأحد أطراف نفتا. لذا فإن القضايا التجارية الثنائية ستحتل مكان الصدارة عندما يقوم الرئيس الأمريكي الجديد أوباما بزيارة كندا في منتصف هذا الشهر شباط (فبراير). وعليه يمكن القول إن حلم الرئيس الأمريكي السابق بوش بإنشاء منطقة للتبادل التجاري الحر بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة و22 دولة عربية من جهة أخرى لن يرى النور في عام 2013 كما كان مخططاً له.
الاستنتاجات والتوصيات:
تعد الولايات المتحدة ثاني أهم شريك تجاري لدول مجلس التعاون بعد الاتحاد الأوروبي. كما تشكل الاستثمارات الأمريكية نسبة كبيرة من الاستثمارات الأجنبية في دول مجلس التعاون وعدد من الدول العربية . لذا فإن الدخول مع الولايات المتحدة في اتفاقيات تجارية واستثمارية سيكون حافزاً إضافياً لتصدير المنتجات العربية للسوق الأمريكية التي تعد الأكبر في العالم، كما أن مثل هذه الاتفاقيات ستشجع على تدفق مزيد من الاستثمارات الأمريكية المعروفة بتفوقها التقني والإداري. يضاف إلى ذلك أن الدخول في اتفاق تجاري أو استثماري مع الولايات المتحدة يشجع الأطراف الرئيسة الأخرى على المضي في السبيل ذاته، ويعطي شهادة "حسن سير وسلوك" للبلد المضيف للاستثمارات ما يشجع على قدومها من مصادر أخرى. لذا فإن من مصلحة الدول العربية ومن ضمنها منظومة مجلس التعاون أن تستغل أية فرصة تسنح مستقبلاً للدخول في اتفاقيات للتبادل التجاري الحر وفقاً لاحتياجات أسواقها، بشرط ألا يكون ذلك على حساب أية ترتيبات إقليمية يتفق عليها في إطار مجلس التعاون أو جامعة الدول العربية....إلخ. فمتى ما قررت الحكومة الأمريكية مستقبلاً فتح هذا الباب فمن الأفضل لدول المجلس بشكل خاص أن تدخله مجتمعةً، إلا أنه في الوقت الحاضر يبدو أن الإدارة الأمريكية سوف لن تقدم على التفاوض مع أي من دول المجلس للدخول في اتفاقيات جديدة للتبادل التجاري الحر. وعليه ينبغي بذل الجهود لاستكمال شروط الاتحاد الجمركي بما في ذلك تطبيق نقطة الدخول الواحدة والاتفاق على آلية لتوزيع الحصيلة الجمركية والقائمة الموحدة للسلع المحمية... إلخ.
تؤثر الاتفاقيتان اللتان تم توقيعهما مع الولايات المتحدة في مجلس التعاون بطريقتين:
الأولى: أنهما تشملان في بعض جوانبهما الجزئية امتيازات تفوق ما تم الاتفاق عليه في إطار مجلس التعاون، ويمكن معالجة هذه الجزئية بقرار من المجلس يضيف هذه الامتيازات إلى ما هو مسموح لمواطني دول مجلس التعاون الطبيعيين والاعتباريين بممارسته.
الثانية: أنه وفقاً لقرارات المجلس الخاصة بالاتحاد الجمركي فإن الرسوم الجمركية على السلع الأجنبية قد حددت بـ 5 في المائة، فإذا أعفت إحدى دول المجلس الموقعة على الاتفاقية الأمريكية السلع الأمريكية من الرسوم الجمركية كيف يسمح لهذه السلع بالتحرك بحرية بين دول المجلس الأخرى دون استقطاع نسبة الـ5 في المائة المتفق عليها في إطار المجلس إلا إذا بقيت الحدود الجمركية على حالها؟ وهذا يخالف مبدأ وهدف الاتحاد الجمركي، وطالما أن الولايات المتحدة توقفت عن التفاوض بشأن اتفاقيات جديدة للتبادل التجاري الحر مع بقية دول المجلس، فإن هذه المشكلة يمكن حلها مؤقتاً بالشكل التالي:
أكبر شريك تجاري لسلطنة عمان بين دول المجلس هو الإمارات العربية المتحدة، وأكبر شريك تجاري لمملكة البحرين بين دول المجلس هو المملكة العربية السعودية، وعليه يمكن أن تبقى هاتان النقطتان الجمركيتان أما بقية النقاط الجمركية التي بين المملكة والكويت، والمملكة والإمارات، والمملكة وقطر، (والمملكة وسلطنة عمان عندما يكتمل الطريق)، فتلغى منها النقاط الجمركية ما عدا تلك النشاطات المخصصة للأغراض الإحصائية (هذا على افتراض أن النقاط الأخرى التي تحول حتى الآن دون التنفيذ الكامل للاتحاد الجمركي سيتم حلها).
من ضمن النتائج التي أظهرها بحث قيم للسيد رياض خوري حول نتائج اتفاقيات التجارة الحرة بين كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة ودول أخرى، أن نمو التجارة بين الولايات المتحدة والدولة الأخرى كان متوازناً مع الشريك الآخر بعد الاتفاق، بينما كان دائماً في مصلحة الاتحاد الأوروبي مقابل خسارة الطرف الآخر الذي وقع الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي. كما أظهر البحث نفسه أن الولايات المتحدة كانت أكثر وفاءً لتنفيذ التزاماتها التعاقدية في مثل هذه الاتفاقيات مقارنةً بالاتحاد الأوروبي. لذا فإن دول المجلس قد أحسنت صنعاً عند إيقاف مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي ( كما سبقت الإشارة في بحث سابق نشر في 15 سبتمبر 2008). إلا أن الأهمية الاقتصادية لدول مجلس التعاون ونمو تجارتها وعلاقاتها الاقتصادية مع الأطراف الرئيسية وعلى الأخص الدول الآسيوية، تتطلب سرعة التفاوض مع هذه الأطراف للوصول إلى اتفاقيات للتبادل التجاري الحر لن تكون مثقلة بالشروط السياسية. وفي الوقت الذي ستسهم فيه مثل هذه الاتفاقيات في تنظيم وتأطير ومأسسة علاقات دول المجلس مع هذه الدول، فإنها ستدفع الآخرين وعلى الأخص الاتحاد الأوروبي لتغيير مواقفهم. كما أنها ستؤسس أرضية مناسبة يمكن اللجوء إليها عندما تكون الولايات المتحدة مستعدة للدخول في مثل هذه الاتفاقيات. وغني عن البيان أن إحدى النتائج لمثل هذه الاتفاقيات هو زيادة الترابط بين دول المجلس نفسها.