سياستنا النقدية محيرة
تراجع الدولار الأمريكي يوم الجمعة إلى أدنى قيمة له أمام العملة الأوروبية منذ إصدارها عام 1999، بوصول سعر اليورو إلى ما يزيد على 1.4 دولار. وحتى قبل هذا التراجع الأخير، كانت هناك مؤشرات على مزيد من الضغط على العملة الأمريكية للتراجع أمام العملات الرئيسية الأخرى، إلا أن أزمة الرهن العقاري وما ترتب عليها من تخفيضات في معدلات الفائدة الأمريكية وتوقع المزيد من التخفيضات للحد من تبعات هذه الأزمة على الاقتصاد الأمريكي، زادت من الضغط على العملة الأمريكية وفاقمت من حدة تراجعها، بحيث يتوقع الآن أن يصل سعر العملة الأمريكية إلى ما يزيد على 1.45 دولار لليورو بنهاية العام الحالي على أبعد تقدير.
مؤسسة النقد العربي السعودي في رد فعل أولي على قرار بنك الاحتياط الفدرالي الأمريكي بتخفيض أسعار الفائدة، أعلنت أنها لن تغير سعر الفائدة على الريال السعودي ولن تفك ارتباط الريال بالدولار، وعدم تخفيض سعر الفائدة على الريال وارتفاعه عن معدلات الفائدة على الدولار، يعني مزيدا من الجاذبية للريال السعودي وضغطا متواصلا عليه للارتفاع أمام الدولار، ما يتطلب تدخلا قويا من قبل المؤسسة في أسواق النقد للدفاع عن سعر صرفه الحالي أمام الدولار. ففي ظل واقع الاقتصاد السعودي القوي الحالي مع ارتفاع أسعار النفط الخام وارتفاع معدلات تدفق النقد الأجنبي للمملكة، فإن هناك ضغطا على الريال للارتفاع وهي ظروف تحتم في الواقع أن تكون أسعار الفائدة على الريال أقل من مثيلاتها على الدولار للتقليل من الطلب عليه لا أن تكون أعلى منها، وكون أسعار الفائدة على الريال تزيد على مثيلاتها على الدولار يعني مزيدا من الضغط عليه للارتفاع. وهو مؤشر على الورطة التي تجد مؤسسة النقد نفسها فيها حاليا، فهي إن خفضت أسعار الفائدة، كما ستكون مضطرة لذلك عاجلا أو آجلا، ستتهم من قبل البعض بأنها لا تبذل ما يكفي لمحاربة التضخم، وإن هي أبقت أسعار الفائدة على حالها زادت من الضغط على الريال للارتفاع وزادت من كلفة تثبيت سعره الحالي أمام الدولار.
والحقيقة الغائبة في هذا النقاش هي أن معدلات التضخم في المملكة ليست مرتبطة على الإطلاق بمعدلات الفائدة التي تحددها المؤسسة على الريال، وإنما مرتبطة بمعدلات نمو السيولة المحلية العالية جدا وبتراجع سعر صرف الريال، اللذين لم تتخذ مؤسسة النقد أي إجراء للحد من أي منه. لذا فإن الاعتقاد بأن إبقاء معدلات الفائدة على الريال على حالها دون تخفيض سيحد من معدلات التضخم تصور في غير محلة، بل قد يكون العكس هو الصحيح، أي أن انخفاض معدلات الفائدة على الدولار مقارنة بالفائدة على الريال سيزيد من التضخم المحلي بدلا من الحد منه، لما يترتب عليه من زيادة في الطلب على الريال وبالتالي ارتفاع في معدلات نمو السيولة المحلية، ولما ينتج عنه من زيادة في الإقراض المصرفي الشخصي وانخفاض في موجودات البنوك الأجنبية في محاولة من البنوك للاستفادة من ارتفاع معدلات الفائدة على القروض الشخصية محليا مقارنة بمعدلات الفائدة على موجوداتها الأجنبية كسندات الخزانة الأمريكية.
فخلال السنوات الأربع الماضية، والتي كانت مؤسسة النقد تقوم خلالها برفع معدلات الفائدة على الريال، في محاكاة للرفع المتواصل من قبل البنك المركزي الأمريكي للفائدة على الدولار، كانت معدلات الفائدة على القروض الشخصية في تراجع مستمر وحجمها في نمو مطرد، نتيجة المنافسة الحادة بين البنوك في استقطاب الأفراد للاقتراض، في ظل محدودية مخاطرها بضمان تحويل الراتب، بحيث إن معدلات الفائدة على القروض الشخصية تقل كثيرا حاليا عن معدلاتها قبل أربع سنوات وحجم تلك القروض يزيد على 184 مليار ريال الآن بينما لم يكن يتجاوز 73 مليار ريال بنهاية 2003، كل ذلك يحدث رغم الزيادات المتعاقبة في معدلات الفائدة على الريال، ما يؤكد عدم تأثير التغيرات التي تجريها المؤسسة في أسعار الفائدة على معدلات الفائدة على القروض الشخصية، وبالتالي هامشية تأثيرها في معدلات نمو السيولة المحلية والتضخم.
إن ورطة تثبيت سعر صرف الريال أمام الدولار عند معدلاتها الحالية تزداد تعقيدا يوما بعد يوم وتأثيرها في اقتصادنا يتفاقم، بحيث تجد السلطة النقدية أنها عاجزة الآن عن الحراك واتخاذ الخطوة المناسبة في الوقت الملائم، ما يؤكد خطأ تأخرنا الشديد عن اتخاذنا القرار المناسب أمام مواصلة الدولار الأمريكي تدهوره، سواء بفك ارتباط الريال بالدولار وربطه بسلة عملات، أو على أقل تقدير إعادة تقييمه أمام الدولار بما يعوض تراجع سعر صرفه. والمطالبات المتزايدة من العمالة الأجنبية في المملكة لزيادة أجورها، وزيادة حدة ظاهرة هروب العمالة من كفلائهم، ومطالبة الدول الأخرى بزيادة الحد الأدنى لأجور عمالتها بنسبة زادت أحيانا عن 50 في المائة، تؤكد أن المواطن سيكون الوحيد الذي سيبقى ضحية لهذا التراجع في سعر صرف الريال، نتيجة مواصلة معدلات التضخم ارتفاعها وتدني مستويات معيشته، ومن غير المقبول أن يحدث كل ذلك في ظل وضع يحتم واقعا مختلفا تماما، لولا قصور أداء أجهزتنا المسؤولة عن صياغة وتنفيذ سياساتنا الاقتصادية الذي أوصلنا لهذا الوضع العجيب.