.. بل هو تضخم مستورد
مساعد مدير صندوق النقد الدولي لشؤون الشرق الأوسط وآسيا الوسطى السيد غيني ليون ذكر الأربعاء الماضي خلال مؤتمر"تحديات التضخم في دول الخليج،" الذي عقد في دبي، أن معظم التضخم في دول الخليج ناتج عن أسباب محلية، كارتفاع أسعار العقارات والخدمات والغذاء، وأبدى هذا الخبير الدولي اعتراضه على الدعوة إلى تغيير السياسات النقدية للدول الخليجية بسبب التضخم، وقال إنها تحدد وفق سياسات لا علاقة للتضخم بها، داعياً إلى وجوب التفريق بين الأسعار والتضخم. وذكر أنه لا يتوقع أن ينتج عن عملية رفع سعر صرف العملات الخليجية الآثار المرتجاة على صعيد الحد من التضخم.
هذا الرأي يظهر محدودية استيعاب وفهم أوضاعنا الاقتصادية الذي يتمتع به هؤلاء "الخبراء الدوليون" الذين نعتمد عليهم ونؤمن بقدراتهم الفائقة على إعطائنا التوصيات والنصائح الاقتصادية المناسبة، ويفسر الفشل الكبير الذي يلازم صندوق النقد الدولي والنتائج الكارثية لتوصياته وبرامجه الإصلاحية، الذي أجبر العديد من دول العالم على الضرب بها عرض الحائط وتجاهلها، كما حدث في ماليزيا إبان الأزمة المالية الآسيوية، التي كان أداء اقتصاداتها أفضل بكثير من أداء اقتصادات دول خضعت لما يسمى برامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي، التي عادة ما يفرضها الصندوق على الدول النامية لقاء حصولها على قروض ترهق اقتصاداتها وتستنزف موازين مدفوعاتها لسنوات طويلة دون جدوى، والاقتصادان البرازيلي والأرجنتيني لم يتعافيا وينطلقا بقوة إلا بعد تخلصهما من برامج الصندوق وتوصياته المدمرة.
فهذا التقسيم النظري لمصادر وأسباب التضخم بين محلي ومستورد قد يكون مناسبا في دول تتصف اقتصاداتها بالانغلاق النسبي إلا أنه بكل تأكيد غير مناسب ولا واقعي عند الحديث عن اقتصادات مفتوحة تماما كالاقتصادات الخليجية. فالاعتماد شبه الكامل في إنتاج السلع والخدمات محليا على العمالة الأجنبية، وكون معظم مدخلات العمليات الإنتاجية من موارد أولية ومواد مصنعة هي مستوردة في الغالب، كل ذلك يقلل من الفارق بين تأثير انخفاض سعر صرف العملات الخليجية على أسعار السلع والخدمات المستوردة وتأثيره في أسعار السلع والخدمات المنتجة محليا. باعتبار أن تراجع سعر صرف العملة المحلية يتسبب في ارتفاع تكلفة المنتجات المحلية بصورة تفوق كثيرا ما سيكون عليه الحال في اقتصاد مغلق، فمع انخفاض سعر صرف الدولار يجبر المنتج المحلي على رفع أجور عمالته الأجنبية لإبقائها على رأس العمل في ظل تراجع دخلها الحقيقي، وترتفع عليه تكلفة الإنتاج بسبب ارتفاع مدخلات الإنتاج المستوردة تبعا لتراجع سعر العملة المحلية. أي أن أسعار المنتجات المحلية تتأثر هي الأخرى بصورة مباشرة بتراجع سعر الصرف، ومن المستغرب ألا يدرك "خبير دولي" متخصص بشؤون المنطقة هذه الحقيقة، عندما يصف ارتفاع أسعار الإيجارات وأسعار المنتجات الغذائية والخدمات المحلية بأنها تضخم محلي لا يتأثر بتراجع سعر الصرف، رغم أن معظم مواد البناء ومكونات إنتاج السلع والخدمات محليا هي أجنبية، ما يجعل تضخم أسعارها مجرد شكل آخر من أشكال التضخم المستورد.
إن تأخرنا الشديد في استيعاب كامل الآثار الاقتصادية السلبية المترتبة على مواصلة سعر صرف الدولار تراجعه، جعلنا نتمسك بصورة غير مبررة بسعر صرف عملاتنا الخليجية أمام الدولار دون تعديل، ما أسهم بشكل مباشر في ارتفاع معدلات التضخم وخروجها عن السيطرة، زاد من حدة ذلك الانفتاح الكبير لاقتصاداتنا الخليجية واعتمادها الكامل على مدخلات الإنتاج الأجنبية. فالانغلاق النسبي للاقتصاد الأمريكي، على سبيل المثال، وكون معظم مكونات الإنتاج في الولايات المتحدة محلية، حد من تأثير تراجع سعر صرف الدولار على تكلفة المنتجات الأمريكية المنتجة محليا، وأجبر المصدرين إلى السوق الأمريكية على تجنب رفع أسعار منتجاتهم حتى لا تفقد ميزتها النسبية وقدرتها على المنافسة في السوق الأمريكية، ما حد من التأثير التضخمي لتراجع صرف الدولار على الاقتصاد الأمريكي، أما في دول الخليج، فإن ارتفاع تكلفة السلع المحلية بسبب انفتاح اقتصاداتها يزيد من التأثير التضخمي لتراجع سعر صرف الدولار، ويسمح بارتفاع أسعار السلع المستوردة دون فقدها ميزاتها التنافسية، ما يزيد من حدة الآثار التضخمية لتراجع أسعار الصرف. وإن كان هناك من أسباب محلية للتضخم في الدول الخليجية فهي عدم تبنيها سياسات نقدية تسهم بفاعلية في محاربة التضخم، عندما لم تبادر إلى حماية أسعار صرف عملاتها من تراجع كان مؤكدا في سعر صرف الدولار، ولم تتخذ إجراءات مناسبة تحد من معدلات نمو السيولة المحلية.