قصة القرد والغيلم
من حبي للقصص جاء حبي للمطالعة. ومن حبي للمطالعة جاء ولعي بالمعرفة، ومن المعرفة تنبت الحكمة كما جاء في الحديث؛ من أخلص لله أربعين يوما تدفقت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
ومع بناتي الخمس كنت أخيرهن في القصص بين الرواية والتمثيل فاختلط الأمر عليهن وقلن بالتمثيل وهن فرحات بالطلب، ولكن لحقهن منه لسعات وضربات لأن الممثل بينهن، فكان إذا جاءت الرواية فيها عصا الجرة التي كسرت جرة العسل نزلت العصا عليهن وكانت لونا لطيفا من المداعبة، من أب يهتم بعقلهن بقدر غذائهن وكسوتهن؟
ولأولاد الدكتور عماد ميزة في قلبي من قصة القرد والغيلم، والغيلم هو ذكر السلحفاة. وهي من إبداعات ابن المقفع في كتابه كليلة ودمنة، فقد روى في كتابه أن قردا كان يحكم قومه فتقدمت به السن، فقام قرد شاب بانقلاب عسكري عليه، فهرب القرد المسن حتى آوته شجرة التين·
وكان الوقت صيفا طابت فيه الثمار كما تحدث الانقلابات عادة مع الصيف، فاعتلى القرد المتعب ظهر الشجرة، ثم شرع يتذكر أيامه الحلوة، ويأكل تينة فيمضغها، فوقعت واحدة من يده؛ فسمع لها رنينا محببا صادرا من ساقية الماء تحته، فأعاد فأكل ورمى، واستمر هكذا يأكل واحدة ويرمي ثانية فيتمتع بالرنين والمذاق الحلو.
ولم يكن يخطر في باله أن الغيلم في الماء كان يلتقط التينة ويظنها كرما وعلامة على إبداء الصادقة من القرد العجوز؟
حتى كان اليوم الذي فوجئ صديقنا القرد المسن بالغيلم، وهو ذكر السلحفاة، يتقدم إليه فيسلم عليه، ويشكره لما ألقى من تين إلى النهر.
سر القرد بصديق يروي له متاعبه، وقصة الانقلاب المروع الذي حدث مع الرفاق وكاد يقتل فيه.
ومع الوقت نمت الصداقة بين القرد والغيلم، ولكنها لم تكن بذلك الخبر السار لزوجة الغيلم؛ فقد ساءها تأخر زوجها في العودة إلى المنزل، فلما سألت عن الخبر قالوا لها لقد صادق قردا شيخا وهن العظم منه، على ظهر شجرة فهما خليلان يتساران ويروي كل منهما للآخر محن الدهر وتصاريف القدر؟
فتظاهرت بالمرض الشديد عندما رجع ليلا إلى منزله، فلما سأل قالوا له إنه مرض أعيا الأطباء، ولا دواء له إلا قلب قرد؟!
فكر الغيلم فلم يجد سوى قلب صاحبه الهارب من الانقلاب العسكري في مملكة القرود؟ فجاءه في الصباح وقد قرر الغدر به فقال له: إنني أريد إكرامك كما أكرمتني، وأدعوك إلى زيارتي في منزلي·
قال القرد وكيف لي بعبور الماء؟ قال لا عليك فظهري خير مركب!!
ثم إن القرد اعتلى لجة الماء على ظهر درع الغيلم، وهو مزهو بهذه الرحلة الميمونة، ولم يخطر في باله أنها انقلاب جديد؟
وكان الغيلم أثناء هذا قد راجع نفسه فأحس بالخجل؟ كيف يقابل الحسنة بالسيئة، والكرم بالقتل، فكان يتوقف من حين لآخر·
راب القرد الأمر لما تكرر، فقال له : يا صاحبي ما بالك متردداً في سباحتك؟ قال: أمر يصعب علي قوله لك، فزوجتي مريضة وليس لها من دواء إلا قلب قرد؟ فقلت ليس لي سواك، فلا تحزن يا صاحبي فالموت حق على الجميع·
قال القرد: سامحك الله لو قلت لي قبل هذا لنفعتك· قال الغيلم: وكيف؟ قال نحن معاشر القردة نترك قلوبنا معلقة في الشجر حينما نخرج للسفر، فإن عدنا غرسناها من جديد في صدورنا!
تعجب الغيلم وحمد الله على هذه العادة عند القرود، فرجع به إلى الشاطئ وقبل أن يصل حافة الماء قفز القرد قفزة هائلة، فصعد الشجرة، وغاب فلما تأخر صاح به الغيلم: أين أنت يا صاحبي؟
قال القرد: أتريد أن أكون مثل الحمار من دون أذنين وقلب؟ قال: وما قصته؟ فشرع القرد في رواية جديدة عن قصص جماعات الغدر والانقلابات؟
فما قصة الحمار والأسد والثعلب والذئب؟؟ هذه هي طريقة ابن المقفع في ألف ليلة وليلة في إدخال قصة على قصة.. وقصة في قصة ..