إنا أنزلنا إليك الكتاب لتحكم بين الناس (قصة اليهودي المتهم ظلما)

إنا أنزلنا إليك الكتاب لتحكم بين الناس (قصة اليهودي المتهم ظلما)

[email protected]

أعتقد أن الكثير ممن يصلي في التراويح، وهو يسمع الآيات الموجودة في سورة النساء، عن قصة اليهودي المتهم ظلما (الآيات 105 - 115) يمر عليها دون إدراك الترميز العميق خلفها عن معنى العدالة؟
بل لا يخطر في باله أن سبب نزول هذه الآيات أمر عظيم، في موقف عظيم، لأمة عظيمة، حققت شروط العدل على نفسها والناس؛ فرفعها الله أعلى عليين، واعتبرها خير أمة أخرجت للناس. وخسف بالظالمين في أسفل سافلين.
وحين مرت علي في كتب التفسير تأثرت بها للغاية. ليس هي فقط، بل هناك العديد من القصص، ونحن في رمضان نمر على الآيات، وفي الكثير من الأحيان ونحن عنها معرضون، ولمعناها جاهلون..
وفي هذه القصة دفاع عن قضية العدالة، وأن الناس يجب أن يحكموا بالعدل بغض النظر عن انتمائهم.
تقول الآية (إنا أنزلنا إليك الكتاب لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)، خصيما أي تدافع عنهم، وسبب ذلك قصة عجيبة جاءت في كتب التفسير، يمكن الرجوع إليها لمعرفتها بالتفصيل، عن سرقة قام بها أنصاري، لدرع رجل من الأنصار(رفاعة بن النعمان)، وهو أمر يمكن أن يحصل في أي مجتمع، فالناس تبقى بشرا، ويحصل فيها مخالفات، وورد في بعض الروايات عن هذا الرجل (بشير بن أبيرق) أنه كان مطعونا، ويبدو أن الناس تكلمت في الموضوع والسرقة، فعمد إلى رمي الدرع في بيت يهودي (زيد بن السمين) ومضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبرئه علانية، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت الآيات تعاتب النبي صلى الله عليه وسلم على التصرف، (ولا تكن للخائنين خصيما، واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا).
إن الآيات حين يتابع الإنسان ظروف نزولها يصاب بقشعريرة ورعدة من التنزيل، ويفهم قول الرحمن "إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا..."
يعاتب الله ويدافع عن يهودي متهم ظلما، وتتنزل الآيات في قضية رجل من قوم يكنون العداوة والكراهية والتآمر للأمة، ولكن هذا لا يمنع، بل هي كامل القوة، وسر قوة هذا المجتمع.. إنها حقنة العدل في شرايين هذا المجتمع الفتي.
إنني أخجل حين أقرأ هذه الآيات، وأرى مظاهر الظلم في كل مكان وأعرف سر القوة والنهوض من الإحباط والانحدار.
يتابع القرآن العتاب ويقول افترضوا أنكم دافعتم عنه في هذه الدنيا، فماذا ستفعلون بين يدي الديان يوم الدين؟
ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة؟ أم من يكون عليهم وكيلا؟
ثم يتابع التنزيل الحكم في ثلاث شرائح ووجبات:
أولا : من يعمل سوءا أو يظلم نفسه (وحده تجاه نفسه، فهي مسألة شخصية بحتة) ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما.
ثانيا: أن الإثم شخصي، يحمله صاحبه، ولا يحمل لغيره، وهو تقرير لمبدأ الفردية، وأن المسؤولية في الآخرة فردية، (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) ـ (لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما)..
ثالثا: أن من يتهم ظلما أو من يرتكب مخالفة ويحاول إلصاقها بالبريء فهو يرتكب أشنع الجرائم؟
(ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرمي به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا).
ثم يعقب القرآن ويقول عن رحمة الله عن تطويق هذا الحريق الخطير(ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك، وما يضلون إلا أنفسهم، وما يضرونك من شيء، وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة، وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيما)..
وتتابع الآيات مصير من انشق عن المجتمع بعد هذه الجريمة في بعض الروايات، وإن من يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى.
ومن هذه الآيات استند الفقهاء إلى شرعية الإجماع أنه أحد مصادر التشريع العشرة، على خلاف في ستة، واتفاق في أربعة: الكتاب والسنة والإجماع و(القياس) الاجتهاد.

الأكثر قراءة