مناقشة أهل الوساوس (1)
إن أهل الوسواس أهلكهم التنطع ويحسبون أنهم يحسنون صنعا وأزداد تخبطهم واتباعهم وسواس الشيطان ويتعلقون بشبه أوهى من خيط العنكبوت ومنها قولهم: إن ما نفعله احتياطا لا وسواس.
ونقول لهم: سموه ما شئتم. والسؤال الموجه لهم: هل فعلهم موافق لفعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأمره, وما كان عليه أصحابه, أو مخالف؟
فإن زعمتم أنه موافق, فبهت وكذب صريح. فإذن لا بد من الإقرار بعدم موافقته, وأنه مخالف له, فلا ينفعكم تسمية ذلك احتياطا. وهذا نظير من ارتكب محظورا وسماه بغير اسمه, كما يسمي الخمر بغير اسمها (1), والربا معاملة, والتحليل الذي لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاعله: نكاحا, ونقر الصلاة الذي أخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن فاعله لم يصل (2), وأنه لا تجزيه صلاته ولا يقبلها الله تعالى منه: تخفيفا. فهكذا تسمية الغلو في الدين والتنطع: احتياطا.
وينبغي أن يعلم أن الاحتياط الذي ينفع صاحبه ويثيبه الله عليه: الاحتياط في موافقة السنة, وترك مخالفتها. فالاحتياط كل الاحتياط في ذلك, وإلا فما احتاط لنفسه من خرج عن السنة, بل ترك حقيقة الاحتياط في ذلك.
وكذلك المتسرعون إلى وقوع الطلاق في موارد النزاع الذي اختلف فيه الأئمة, كطلاق المكره, وطلاق السكران, والبتة وجمع الثلاث, والطلاق بمجرد النية, والطلاق المؤجل المعلوم مجيء أجله, واليمين بالطلاق, وغير ذلك مما تنازع فيه العلماء إذا أوقعه المفتي تقليدا بغير برهان, وقال: ذلك احتياط للفروج. فقد ترك معنى الاحتياط فإنه يحرم الفرج على هذا, ويبيحه لغيره. فأين الاحتياط ههنا؟ بل لو أبقاه على حاله حتى تجمع الأمة على تحريمه وإخراجه عمن هو حلال له. أو يأتي برهان من الله ورسوله على ذلك, لكان قد عمل بالاحتياط. ونص على مثل ذلك الإمام أحمد في طلاق السكران.
فقال في رواية أبي طالب: "والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة. والذي يأمر بالطلاق فقد أتى خصلتين: حرمها عليه, وأحلها لغيره" فهذا خير من هذا, فلا يمكن الاحتياط في وقوع الطلاق إلا حيث أجمعت الأمة. أو كان هناك نص عن الله ورسوله يجب المصير إليه.
(1) كما يسمونها في مصر "بوظة" و"بيرة" وأمثال ذلك من الأسماء التي لا تغير حقيقة ما فيها مما حرمت من أجله: من تخمير العقل وإذهابه وتخدير الحواس وإيقاع الشيطان العداوة والبغضاء.
(2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة في الرجل المسيء صلاته الذي قال له "ارجع فصل فإنك لم تصل" كررها ثلاثا.