كارثة العبارة المصرية والمسؤول

غضب عارم في الشارع المصري بعد غرق العبارة المصرية "السلام 98 -بوكاشيو" يوم الخميس الماضي (2 فبراير 2006) التي كانت في رحلة عادية بين ميناء ضبا السعودي وميناء سفاجا المصري حاملة 1414 شخصا منهم 104 من طاقم السفينة، فضلاً عن 22 سيارة و16 شاحنة لم ينج منهم سوى 376 شخصا. مظاهرات ورشق أهالي الضحايا للشرطة المصرية بالحجارة رداً على التعتيم المعلوماتي حول مصير أحبائهم الذي عانوا منه خلال 63 ساعة لم يتحدث إليهم مسؤول على الرغم من المسؤولين الذين تجاوبوا مع وكالات الأنباء العالمية تاركينهم ينتظرون في ظروف نفسية صعبة.
الروايات مختلفة, لكن الإجماع يدور حول حريق أصاب السفينة بعد نصف ساعة من مغادرة ميناء ضبا التي تركته في الساعة السابعة والنصف مساء واستمرت في الإبحار باتجاه مصر لمدة ثلاث ساعات قبل غرقها دون أن يعود الربان أدراجه بها ودون أن تنطلق صافرات إنذار أو يقوم الطاقم بترتيبات الإخلاء. والاتفاق في الأقوال كان حول سوء أداء طاقم السفينة في التعامل مع الحريق وفي منع توجيه الركاب إلى أطواق أو قوارب النجاة، واستئثارهم بها وهربهم وتركهم لألف وثلاثمائة مسافر إلى مصيرهم المجهول. عدد من الشهود الناجين ذكروا لوكالات الأنباء أن الحريق عندما بدأ في أحد المحركات أسفل السفينة لم يتخذ الطاقم أي إجراء سوى محاولة الإطفاء ولم يعلنوا أنهم لم ينجحوا في ذلك لمدة ثلاث ساعات، وعندما قام البعض بارتداء سترة النجاة طلب منهم الطاقم نزعها وأخذوها منهم، وعلى الرغم من قربهم آنذاك من الساحل السعودي لكن الربان استمر في الإبحار باتجاه مصر مبتعدا عن أي شواطئ. وبعد قليل شاهدوا ربان السفينة في أحد قوارب النجاة تاركاً السفينة تغرق بمن عليها، وما زال الربان مفقودا، لا سيما إن كان سوف يواجه مساءلات قانونية ومحاكمة إن لم تبتلعه الجماهير الغاضبة قبل ذلك.
الكارثة، للأسف، لا تقتصر على مشكلة ربان سفينة وطاقم غير مسؤول لن ينعم بحياته وفي ضميرهم حياة ألف شخص من المسافرين الأبرياء, وإنما على عدد من مظاهر القصور والفساد. فهذه سفينة يبلغ عمرها 36 عاما باعتها شركة إيطالية إلى شركة السلام المصرية عام 91 وعمرها واحد وعشرون عاما. وسبب بيعها هو رفع الاتحاد الأوروبي من معاييره ومقاييسه الخاصة بالسفن والتي تجعل من هذه السفينة غير صالحة للإبحار في المياه الأوروبية. لكنها خدمت لمدة خمسة عشر عاماً أخرى في البحر الأحمر حيث تخضع للقوانين المصرية وللتفتيش السعودي دون أن يجدوا أنها تشكل أي خطر على الركاب أو على الأمن والسلامة، مما يدل على انخفاض مستوى المعايير المطبقة في الدول العربية. فتذكر التقارير أن السعودية فتشت السفينة منذ بضعة أيام وأقرت أنها صالحة للسفر، على الرغم من أن المتحدث باسم الحكومة المصرية يعترف بأن عدد زوارق النجاة لم تكن كافية في السفينة. ومن جهة أخرى ذكر أحد التقارير أنه وفق القانون المصري يتوقف العمل والإبحار في السفن التي تجاوز عمرها خمسة وعشرين عاماً، فما الذي أصاب القانون المصري البحري خلال العشر سنوات الأخيرة التي تركت فيه هذه السفينة تغدو وتروح دون حساب على الرغم من تعرضها لعشرات الحملات التفتيشية الروتينية؟

من الأخطاء غير المفهومة تأخر السلطات المصرية في التعامل مع الكارثة وعدم التصرف منذ انقطع الاتصال وفقد الرادار السفينة في منتصف الليل، من جانب، ومن جانب آخر رفض قبول عرضي بريطانيا وأمريكا للإنقاذ، في حين أن سفن الإنقاذ المصرية لم تصل مسرح الحدث إلا بعد عشر ساعات من غرق السفينة، حسب وكالة الأسوشيتد برس.
من المثير للاهتمام الفرق في توفر المعلومات بين المصادر العربية والغربية. فبمجرد أن أعلن عن فقدان الاتصال بالسفينة "سلام 98" حتى اتصلت الـ CNN بشركة لويدز، وهي شركة تأمين بريطانية ضخمة وتختص بتأمين السفن. وبمجرد سؤال أحد الخبراء فيها "دافيد أوسلر" عن العبارة المصرية حتى أعطانا تقريراً كاملاً عن تاريخها وصناعتها ونوعيتها وطاقة استيعابها ومسيرة عملها وبعد ذلك درجة الأمان فيها، ويقول: "إن هذه السفن معروفة بأنها غير آمنة، وأن استقرارها وتوازنها عليه علامات استفهام، وسجل هذا النوع من السفن الكارثي مرتفع جداً، وهو أحد الأسباب الذي أوقف التعامل مع هذا الموديل من السفن"، كما تحدث عن سبب تخلص إيطاليا منها بالبيع عام 91 عندما فرضت معايير أعلى من الماضي، في حين أن البحث كان جارٍيا في القنوات العربية على معلومات.
وسجل شركة السلام المصرية للسفن ذات تاريخ غير آمن فيما يختص بالأمن والسلامة، فإحدى سفنها العبارة "سالم إكسبرس" غرقت قبالة ميناء الغردقة المصري في كانون الأول (ديسمبر) 1991 مما أدى إلى مقتل جميع الركاب البالغ عددهم 476 شخصاً، وعرف فيما بعد أن المشكلة كانت في خطأ إبحاري من قبل الربان. ولم ينتج عنها تلك الأيام محاسبة ولا رفع من مستوى المعايير البحرية. وسفينتها "السلام 90 - بتراركا" غرقت في 22 حزيران (يونيو) 2002 بعد حريق أصابها وهي تغادر دبي باتجاه سفاجا، لكن الركاب أخلوا قبل غرق السفينة مما أدى إلى وفاة واحدة وعشر إصابات. والسفينة "السلام 95" اصطدمت في تشرين الأول (أكتوبر) 2005 بسفينة قبرصية عند خليج السويس وعلى متنها 1495 حاجا ومعتمرا وتم إنقاذ جميع الركاب ثم ما لبثت أن غرقت في دقائق بعد فصلها عن السفينة القبرصية.
لا أرى أن هناك ضرورة على التأكيد على أن محاسبة المسؤولين عن هذه الكارثة يجب أن تتم على كل المستويات. يشترك فيها شركة السلام، مسؤولو وموظفو وزارة النقل والبحرية المصرية التي تعطي التصريحات، جهات التفتيش المختلفة سواء على الجانب المصري أو السعودي، ومن نجا من طاقم السفينة. إن تأجيل وتسويف المحاسبة لا ينتج عنه استشراء للفساد فحسب بل وتكرار الكوارث، ومن أمن العقوبة استمر يتاجر في أرواح البشر. وحسب خبير سفن فرنسي يدعى إيفان برشوك، فإن عبارة السلام 98- بوكاشيو هي إحدى ست عبارات إيطالية أضيفت إليها عدة طبقات لرفع طاقتها الاستيعابية من الركاب والتي تصل في بعض الأحيان إلى ثلاث طبقات (AFP).

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي