سوق الأسهم بين الواقع والأحلام
اللفتة الكريمة من خادم الحرمين الشريفين التي انتشل بها سوق الأسهم السعودية من كبوتها ذات معان إنسانية أكثر من أن تكون إجراء سياسيا أو اقتصاديا. وتمثل تعاطفا من القيادة الحكيمة مع معاناة الكثيرين في السوق ممن ورطوا أنفسهم في مغامرات غير محسوبة غير مكترثين أو مدركين المخاطر التي يمكن أن تعصف بهم في أي سوق مالية، خاصة عندما تتصف أسعارها بالمغالاة الشديدة. فالسوق المالية كما تمر بارتفاع كبير فإنها تتعرض لتراجع حاد أيضا، ومن يغامر سعيا لتحقيق الأرباح عليه أن يكون مستعدا لتحمل الخسائر.
والرغبة في الثراء السريع يجب ألا تغيب الواقعية وإدراك أن السوق المالية وجدت لتكون وعاء لاستثمار المدخرات الشخصية الفائضة عن الحاجة، لا أن تكون مكانا لاستثمار مدخرات وهمية غير حقيقية. كأن يستثمر في هذه السوق من يقترض حسما من راتبه الشهري أو من يبيع بيته أو سيارته، فهذه ليست فوائض يناسب استثمارها في سوق يمكن أن تتعرض لتراجع حاد دون سابق إنذار. ومثل هذا المستثمر، في الحقيقة، غير مرغوب فيه على الإطلاق في السوق المالية، ويجب ألا تكون السوق قادرة على استقطابه، لأنه يعرض نفسه لكارثة ماحقة عندما لا تجري الأمور وفق حساباته التي قد تكون أقرب للأحلام من كونها قرارات استثمارية مدروسة بعناية. ومسؤوليته الأخلاقية نحو نفسه وعائلته تحتم عليه الواقعية وعدم الانسياق المفرط خلف حلم الثراء السريع، جريا خلف توصية قرأها في منتدى مشبوه أو رسالة جوال مجهولة المصدر، وبالتالي تعريض نفسه لوضع قد لا يستطيع بعده تأمين أبسط احتياجاته المعيشية.
وهنا يحضرني قصة مستثمر أمريكي معروف جلس يلمع حذاءه صباح أحد الأيام في خضم التضخم الكبير الذي كانت تعيشه أسعار أسهم بورصة نيويورك في أواخر العشرينيات من القرن الماضي وأدهشه حديث ملمع الأحذية عن سوق الأسهم وكونه أحد المستثمرين فيه، فما كان منه إلا أن توجه مباشرة لمكتبه وطلب من موظفيه بيع كل ما يملكه من أسهم، فسوق تستقطب حتى ملمعي الأحذية يلزم أن تكون مبالغة في أسعارها بصورة غير طبيعية ومرشحة لتراجع حاد، وبعد هذه الحادثة بأيام قلائل انهارت السوق تاركة خلفها أكبر كارثة اقتصادية عرفتها الولايات المتحدة في تاريخها.
بعبارة أخرى إن السوق المالية متى ما استقطبت من لا يملك فوائض مالية حقيقية، وكل ما قد يملكه طموح ساذج بربح كبير، فإنها تصبح خطرا يهدد سلامة الاقتصاد والمجتمع عند أي تراجع. وفي هذا السياق فإن معظم من استقطبتهم سوق الأسهم السعودية خلال العام والنصف الماضية لا يملكون الموارد المالية التي تؤهلهم للاستثمار في سوق مجبولة على المخاطر ويمكن أن تمر في دورات اقتصادية عنيفة، وحداثة تعاملهم مع السوق جعلتهم يحملون تصورا متفائلا جدا عن السوق وعما يمكن أن تصل إليه أسعار الشركات المدرجة ولا يربطون مطلقا بين الأداء المالي للشركات وسعرها المناسب في السوق المالية.
ما يجعل المبادرة الكريمة وما ترتب عليها من ارتفاع في سوق الأسهم تمثل فرصة أخرى للخروج إلى بر الأمان لكل من ورط نفسه في سوق الأسهم دون أن يمتلك الأدوات اللازمة لذلك، وأهمها دون أدنى شك، كونه مستثمرا يوظف فائض ماله لا مستثمرا يوظف فتاتا يجترها بصعوبة بالغة. فهذه السوق يجب أن تقوم على مستثمرين حقيقيين يسعون إلى تحقيق مكاسب كبيرة لكن لديهم أيضا القدرة على تحمل الخسائر وتجاوز آثارها دون أن يعرضوا أنفسهم لمخاطر لا يستطيعون النهوض بعدها. أما غيرهم فعليهم قصر استفادتهم من هذه السوق من خلال الدخول في الاكتتابات الأولية، التي توفر حاليا ربحا مضمونا مجزيا، وإن كان لا بد لهم من الاستثمار في هذه السوق فليكن من خلال الصناديق الاستثمارية في البنوك فقط، والقناعة ستظل دوماً وأبدا كنزا لا يفنى.