اقتصاد المعرفة (2)

[email protected]

يشير مفهوم مجتمع المعرفة بشكل ضمني إلى توافر مستويات عليا من التعليم والبحث والتنمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصال. وتواجه مسألة إمكان قيام مجتمع تسيطر عليه المعرفة وتوجهه وترسم له مساراته في المستقبل وتحقق له النجاح والازدهار كثيراً من التحديات والشكوك.
ولكن الرأي السائد بين معظم المهتمين بالموضوع هو أن مجتمع المعرفة سيتحقق بصورة كاملة وواضحة على أرض الواقع بأسرع مما يظن الكثيرون. ويستند أنصار هذا الرأي إلى المقولة الشهيرة عن أن (المعرفة قوة) للتدليل على أن إنتاج المعرفة - وليس فقط حيازة المعلومات، وهو الوسيلة الوحيدة لضمان البقاء والاستمرار في الوجود بل وتحقيق السيطرة والهيمنة في عصر سيتميز بالصراع السياسي والاقتصادي والعلمي والثقافي لفرض الذات على الآخرين, سواء أكان هؤلاء الآخرون هم الأفراد أم الجماعات أم الدول.
ويتطلب ظهور مجتمع المعرفة توافر إمكانات خاصة تهيئ الفرصة للاضطلاع بالأعمال والأنشطة الجديدة الكثيرة التي تتفق مع التحول إلى إنتاج المعرفة واعتبارها سلعة تجارية تعرض للبيع والشراء وتكون مصدر دخل للمجتمع المنتج لها ويمكنها الصعود في وجه المنافسة العالمية كأي سلعة أخرى. وبطبيعة الحال فإن هذه الأعمال والأنشطة الجديدة أو المستجدة ستكون ذات طابع خاص ومتميز وتعتمد على أدوات ووسائل وأساليب جديدة تماما تحتاج إلى توافر نوع خاص من التعليم والتدريب يتناسب ويتلاءم مع الظروف والأوضاع الجديدة ويؤهل للقيام بالمهام الصعبة التي ستستخدم فيها هذه المعرفة, وهي مهام تتصل بشكل مباشر بتقديم الخدمات العامة التي ستمتد إلى مجتمعات ومناطق بل وإلى أشخاص لم يكونوا يحصلون عليها من قبل، وأن إنتاج المعرفة سيكون سلعة رابحة تحمل معها السيطرة السياسية والمكانة الاجتماعية والهيمنة الثقافية والاقتصادية على المجتمعات الأخرى, وقد يكون من الصعب قياس مقدار المعرفة التي تدخل في عملية الإنتاج وذلك يعكس الحال بالنسبة للعناصر الأخرى التي يعطيها مجتمع الصناعة الأولوية في تقويم الإنتاج. وتمتاز المعرفة على تلك العناصر بقدرتها الفائقة على الانتقال والانتشار عبر العالم حين تتوافر الوسائل والظروف الملائمة, ولذا تحاول دول الغرب المنتجة للمعرفة إخضاع الشبكات الإلكترونية لرقابتها الصارمة وإثارة مشكلة الملكية الفكرية وفرض أسعار عالية على بيع المعرفة التي تنتجها أو السماح باستخدامها مما يحرم المجتمعات الأقل تطورا من الإفادة منها في تحقيق ما تصبو إليه من تقدم وازدهار
ويتميز مجتمع المعرفة بعدد من المميزات والخصائص منها: توافر مستوى عال من التعليم، ونمو متزايد في قوة العمل التي تملك المعرفة وتستطيع التعامل معها، وكذلك القدرة على الإنتاج باستخدام الذكاء الصناعي وتحول مؤسسات المجتمع الخاصة والحكومية ومنظمات المجتمع المدني إلى هيئات ومنظمات (ذكية) مع الاحتفاظ بأشكال المعرفة المختلفة في بنوك المعلومات وإمكان إعادة صياغتها وتشكيلها أو تحويلها إلى خطط تنظيمية، ووجود مراكز للبحوث القادرة على إنتاج المعرفة والاستفادة من الخبرات المتراكمة والمساعدة في خلق وتوفير المناخ الثقافي الذي يمكنه فهم مغزى هذه التغييرات والتجديدات ويتقبلها ويتجاوب معها.
ومن الملاحظ أن الكثير من مؤسسات الغرب المهتمة بتنمية العالم الثالث تحصل أثناء تنفيذها لمشروعات التنمية في تلك المناطق على معلومات كثيرة ومتنوعة تستغلها لصالحها الخاص وتحقيق مكاسب وأرباح خيالية من بيعها إلى المؤسسات التي تقوم بتحويلها إلى سلع تحقق لها هي أيضا مزيدا من المكاسب والأرباح. فالمعرفة تكتسب قيمة مضافة من إمكانات تسويقها, وواضح من هذا كله أن الذي يتحكم في الهوة أو الفجوة المعرفية ويعمل على استمرارها هي الجماعات الاستراتيجية القوية في بحثها عن المكاسب المادية وعن الربح والثروة وما يرتبط بذلك من هيمنة اقتصادية وسياسية وأن استمرار الهوّة المعرفية مسألة مفتعلة إلى حد كبير لضمان استمرار تفوق الغرب وهيمنته على اقتصاديات العالم.
وربما كان أصدق ما يلخص الموقف الآن بالنسبة لمجتمع المعرفة وضرورة العمل على ملء الثغرة المعرفية التي تفصل العالم المتقدم عن العالم النامي هو ما قاله الرئيس الماليزي مهاتير محمد عام 1991وهو يصف ما يجب أن يكون عليه المجتمع الماليزي حتى يمكنه مسايرة الأوضاع الجديدة التي سوف تنشأ في المستقبل القريب: (لقد مر على الإنسانية وقت كانت الأرض تعتبر فيه هي الأساس الضروري للازدهار والثروة, ثم جاءت مرحلة تالية تتمثل في عصر التصنيع وفيه ارتفعت المداخن حيث كانت تقوم الحقول. أما الآن فإن المعرفة أصبحت تؤلف وبشكل متزايد ليس فقط أساس القوة ولكن أيضا أساس النجاح والتقدم, ولذا فيجب ألا نبخل ببذل أي جهد لإقامة مجتمع ماليزي معلوماتي غني). وما قاله مهاتير محمد يصدق بحذافيره على كل المجتمعات اللاغربية حتى تستطيع مسايرة ومتابعة التطورات المتلاحقة في مجتمع المعرفة الذي تتبلور ملامحه بسرعة فائقة والذي سيفرض نفسه بقوة في وقتنا الحالي.
فهل نستطيع أن نبني في داخل المملكة وجميع الدول الإسلامية والعربية مجتمع المعرفة؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي