الفوضى العالمية الجديدة تتطلب دبلوماسية الخيزران الفيتنامية

فيما تغدو الولايات المتحدة أشدّ تكبراً مع روسيا والصين، ينبغي لكثير من الدول أن تحاكي فيتنام في الانحناء في وجه العاصفة

سياسة فيتنام المعتمدة على أربع محظورات أرجى في تجنب تبعات الفوضى العالمية

المقاربة الفيتنامية لمقاومة الانكسار أثبتت نجاحاً أكبر من سياسة الفنلندة مع السوفييت


أنا أتابع الشؤون الدولية من واشنطن، عاصمة القوة العظمى التي كانت في الماضي أقرب بأن تكون قوة خيّرة تهيمن على العالم. أما الآن فأجدها باحثة عن دور مغاير، كقوة إمبريالية محتملة تسعى إلى تقسيم الكوكب إلى مناطق نفوذ. لكن ماذا لو كنتم تنظرون إلينا في واشنطن من عاصمة قوة غير كبرى (إن لم تكن "صغيرة")؟ من مكان ولنقل إنه ربما يكون على سبيل المثال هانوي أو جاكرتا أو نيودلهي أو بريتوريا أو أبوجا أو برازيليا أو مكسيكو سيتي، أو حتى كوبنهاغن أو أوتاوا أو بنما سيتي؟

نصيحتي، بعد مضي نحو 100 يوم على بدء ولاية دونالد ترمب الثانية، هي محاكاة فيتنام وتبني شكل من أشكال "دبلوماسية الخيزران" التي اتبعتها، ومقتضى ذلك أن تنحنوا في مهب الرياح الجيوسياسية حتى لا تنكسروا، أبقوا كل القوى الكبرى بعيدة عنكم، إن لم تكن متساوية البعد، وتأكدوا من تحصين رهاناتكم.

تاجروا مع كل من ينفتح على التجارة في إطار ترتيبات متعددة الأطراف حيثما أمكن ذلك. ادخلوا في تحالفات مرنة لردع روسيا أو الصين أو الولايات المتحدة أو أي طرف آخر عند الضرورة، وفي بعض الأحيان يكون ذلك مع أحد الطرفين ضد الآخر. لا تثقوا في العهود التي تعقدونها مع أي طرف، لكن لا تستفزوهم. افعلوا أي شيء يضمن أن تبقوا مستقلين وذوي سيادة.


نشأة دبلوماسية الخيزران


بما أن هذا يشبه إلى حد ما تمايل الخيزران في وجه الريح، وهو شعار ينتشر عبر غابات فيتنام وفنها ونفسيتها، فقد جعل زعيم البلاد الراحل نغوين فو ترونغ من هذا النبات كناية لسياستها الخارجية. بيّن أن فيتنام تحتاج في تعاملها مع العالم إلى "جذور قوية وجذع قوي وفروع مرنة“.

هذا أمر منطقي بالنسبة لبلد ناضل من أجل البقاء ضد تدخلات قوى عظمى فيه مثل الصين وفرنسا والولايات المتحدة، وهو الآن يضع استقلاله وسيادته وجذوره وجذعه فوق ما سوى ذلك من مصالح.

ما يزال استخدام دبلوماسية الخيزران في فيتنام قائماً على "لاءات أربع": لا للانضمام إلى تحالفات دائمة، لا للانحياز إلى دولة ضد أخرى، لا للسماح لقوى أخرى باستخدام أراضيها لشن حروب، ولا لاستخدام القوة المهددة في تسوية النزاعات. في الممارسة العملية، تتلخص السياسة الخارجية الفيتنامية في اللياقة والتوازن، ومن ذلك توقيع شراكة إستراتيجية شاملة مع واشنطن (التي ستكون صديقاً نافعاً إن استولت الصين على الجزر الفيتنامية في بحر الصين الجنوبي) وفي الوقت نفسه توقيع 36 اتفاقية تعاون مع بكين باسم بناء "مستقبل مشترك".


إخفاق مع الحالة الروسية


مع ذلك، فإن سياسة فيتنام توضح أيضاً أحد عيوب دبلوماسية الخيزران. بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، واجهت هانوي معضلة أخلاقية. لقد أعربت عن تعاطف حقيقي مع أوكرانيا واستنكرت انتهاك سيادتها. لكنها كانت بحاجة إلى تجنب الانحياز ضد روسيا.

كانت النتيجة أبعد شبهاً عن الخيزران وأقرب إلى التواءات شجرة بونساي مقزّمة. فقد واصلت هانوي محادثاتها مع موسكو وامتنعت عن إدانة الكرملين في الأمم المتحدة، فيما أعلنت تضامنها ثنائياً مع كييف وأرسلت إليها مساعدات إنسانية.

تتبنى بلدان أخرى، خاصة في جنوب العالم، سياسات خارجية مشابهة لها مسميات مختلفة. الهند تسعى إلى ”تعدد الانحيازات": فهي عضو في الرباعية (وهي تحالف نمطه شبه غربي يضم نيودلهي وواشنطن وكانبيرا وطوكيو) فيما تشتري النفط والأسلحة من روسيا، وتتعاون مع روسيا والصين ودول أخرى في منتدى ”بريكس“.

سنغافورة، الدولة الجزيرة والمركز البحري، تمارس "دبلوماسية الحفاظ على مسافة متساوية" في علاقاتها مع الولايات المتحدة والصين. أما تركيا فترى نفسها جسراً بين الشرق والغرب وتنتمي إلى حلف شمال الأطلسي، في حين تشتري أنظمة دفاع صاروخي روسية.

على هذا النحو، فإن دبلوماسية الخيزران تحت أي مسمى، تشكل بديلاً أفضل عن إستراتيجية أخرى للقوى الصغيرة التي تريد الحفاظ على سيادتها في ظل العمالقة، وهي إستراتيجية الفنلندة.


الانحناء تحرفاً أجدى من الرضوخ


حصلت هذه المقاربة على اسمها من اتفاق توصلت إليه فنلندا مع الاتحاد السوفييتي في 1948، عندما وافقت على البقاء غير منحازة إلى ما أصبح لاحقاً حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، ما يعني في الواقع الخضوع للسياسة الخارجية لموسكو في مقابل الحفاظ على استقلالها. بالقياس على النباتات، تشبه الدولة المفنلندة نباتاً ينبت على آخر ويوافق على عدم إزعاج المضيف. لكن الأفضل أن تكونوا أشبه بالخيزران.

حتى وقت قريب، كنت سأنصح بإستراتيجية كبرى تتفوق على سياسة الخيزران أو النباتات الهوائية. لو استمر نظام السلام المستدام وعبره عادةً ما تدعم أمريكا قواعد النظام وتناهض العدوان، كنت سأحث البلدان على اختيار معسكر واحد على أن يكون ذلك المعسكر هو الغرب بقيادة أمريكا. فقد كانت عموماً قوية عسكرياً ومزدهرة اقتصادياً وحرة سياسياً.

لكن ترمب ألغى السلام المستدام باسم ”أمريكا أولاً“، متخلياً عن النظام الدولي لمصلحة الفوضى وربما الفوضى العارمة.

في هذا العالم الجديد الشجاع، لم تعد المثالية الصرفة (التفكير من منظور الديموقراطيات ضد الأنظمة الاستبدادية، على سبيل المثال) تشكل إستراتيجية وطنية قابلة للتطبيق. وكذلك الولاء للولايات المتحدة.

يرجح أن يكون العالم عاصفاً في عهد ترمب، وأفضل رهان أمامكم هو أن تبقوا متجذرين ومنتصبين: أي أن تصبحوا خيزراناً.


خاص بـ "بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي