قصة السمكات الثلاث
يروي ابن المقفع في كتابه (كليلة ودمنة) هذه القصة اللطيفة تحت عنوان الناس ثلاثة: منهم الكيس وأكيس منه والعاجز. وهو يطلق هذه الحكم على أفواه الحيوانات والطيور والسمك في محاولة توجيه الحاكم بطريق خفي إلى الأساليب الحكيمة في توجيه الأمة في وقت كان يعاني الفكر فيه من اختناق سياسي. يقول ابن المقفع إن ثلاث سمكات كن في غدير ماء في أحسن حال وكان هذا الغدير معزولاً عن النهر الكبير القريب منه مشكلاً بركة جميلة وكانت الأسماك الثلاث تسبح فيه تتمتع بالحياة وتتكاثر حتى كان يوماً أسود في تاريخ هذه البركة السعيدة الهانئة فقد اكتشف جماعة من الصيادين هذه البركة العامرة بوليمة الأسماك. نظر أحدهم في الماء الرقراق ولما رأى عبث السمكات ولعبهن البريء سال لعابه لوجبة رائعة من اللحم الأبيض وقرر القدوم في أقرب وقت لبدء الحملة العسكرية وتمشيط الماء من السمكات الثلاث. روع الخبر السمكات وبدأن في التفكير فأما الأولى فقالت كما قال الخليفة العباسي عندما سمع خبر زحف المغول بغداد تكفيني ولن يستكثروها علي. إن الخليفة العباسي لم يكن ليتصور ولو في المنام أو أن أولئك الرعاع من وسط سهوب آسيا سوف يزحفون بنظم متتابع حتى يحدقوا ببغداد مثل تطويق السوار للمعصم وسوف يدمرون الخلافة ويغتصبون لؤلؤة الشرق لأنه كان يعيش مرتخياً على الأمجاد ولكن قانون التاريخ أنه يعاقب الكسالى والمغفلين ولا يرحم. قالت السمكة الأولى لا أظن أنهم قادمون. وكل ما تحدثوه ليس حديثاً جدياً ولن يستطيعوا الإيقاع بي فأنا أعظم من ذلك وأبرع في الإفلات من شباكهم وصناراتهم. قالت الثانية لا بأس لسوف أنتظر قليلاً حتى أحزم أموري للرحيل. أما الثالثة فقد استنفرت نفسها وشعرت بجدية الخطر ولكن المشكلة كانت في انعزال البركة فمازالت تبحث في جنباتها عن مكان وصول الماء حتى اهتدت إلى جدول سطحي ضيق يصل بين البركة والنهر العظيم. عندها قفزت إلى البرزخ وسبحت بقوة فكانت هناك في وقت قصير ونجت. ولم يخيب الصيادون ظناً فبعد أيام قليلة كانوا على رأس البركة يبحثون عن السمكات الكبيرات الثلاث ولاح تحت الماء ظل اثنتين. وكان أول شيء فعلوه هو ردم البرزخ الممتد بين البركة والنهر قطعاً للطريق على من يحاول النجاة. فكرت السمكة الثانية فتظاهرت بالموت فبدأت تقلب نفسها على سطح الماء عسى أن تنفع الحيلة في النجاة فأخذوها ووضعوها بجانبهم فلما رأت المضيق المائي بجانبها ما كان منها إلا أن قفزت بكل ما أعطاها الله من القوة فرست على سطح الماء ومازالت تجدف بزعانفها حتى وصلت إلى النهر فغاصت في لججه ولم تصدق بالنجاة. ولكن بقي في البركة السمكة العاجزة كما في قصة الخليفة العباسي المنتظر قدوم المغول حينما خرج إليه خليفة سمين حاسر الرأس ينتظر مصيره. وكما نهب المغول بغداد فقد احتفل الصيادون في تلك الليلة على وليمة عامرة من السمك الأبيض اللذيذ الطازج ولقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب.