كل منا متحيز
أبغض شيء على النفس الانتقاد، ولا تسكر النفس بخمر كالثناء، ويتخدر بعض المسؤولين بمورفين القوة فيبدأون بالهلوسة مثل متعاطي المخدرات. ويقول المثل أن كرسي المسؤولية يصيب صاحبه بالصمم. ولايمارس المجرم عمله دون تبرير كاف. الطبيعة البشرية تقوم على اعتقاد كمال الذات. مع هذا يبقى تقبل النقد مشعراً للنضج، وضبط النفس عين التقوى، ولكنها فضيلة صعبة الاقتناء مستحيلة المحافظة عليها بسبب الضعف الإنساني الذي لا يصلحه إلا النقد المستمر والمراقبة الدؤوبة. رأى الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) أن (السلطان) هو القوة الاجتماعية المحورية، كما كانت الطاقة في الطبيعة، والجنس في البيولوجيا. من شحنة كهربائية عالية التوتر في هيئة صاعقة، أو عضلات متوترة في جسم رياضي، أو طاقة روحية في تجليات فيلسوف مبدع، أو تدفق الرفاهية في مجتمع متقدم. القوة الاجتماعية تتظاهر بأكثر من شكل من القوة العسكرية أو المالية أو النفوذ والهيمنة السياسية والسيطرة على الرأي العام. وكما عرفنا تحول الطاقة في الفيزياء من شكل لآخر، كذلك جرى قدر السلطان الاجتماعي في تبدله من حال إلى حال؛ فالنفوذ يجني المال، والمال يفضي إلى التسلل لمفاتيح الرأي العام، والقوة العسكرية تفتح الطريق للاثنين معاً، والمماليك حكموا مصر خمسة قرون. لم يكن عبثاً أن ربط القرآن بين السلطان والمال (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه). القوة كمية حيادية ويمكن أن تخدم القوة أو الحقيقة. الصنم أو الفكرة. وتبقى (النتيجة) هي التي تحكم على أداء القوة. ومن ثمراتهم تعرفونهم فلا يُجتنى من العنب حسكاً أو من التين شوكاً. عندما يختلف الناس يتجادلون. ويمكن أن يبقوا خارج باب الحل ألف سنة يتبادلون التهم، وكل فريق يدعي أنه الأفضل والأصوب، ويمكن تجنيد كل الأدلة العقلية والنقلية لصحة رأي كل فريق. كل منا متحيز وقد يصبح أحدنا أقل تحيزاً عندما يكتشف نفسه أنه خاضع لقانون التحيز. مايحكم على الأداء الجيد للقوة هو ( النتيجة ) ومن خلال قانونين : النتيجة مربوطة بالجودة والاستمرارية وبتعبير القرآن (خير وأبقى) . هكذا انقرضت الفاشية ودحرت النازية وتهدمت الشيوعية والثاني: قانون الحذف والإضافة ؛ فالتجارب تراكمات بطيئة لإنجازات صغيرة عبر وحدات الزمن المتدفقة. نحن نرى النتائج في فيزيولوجيا الجسم ونمو الطبيعة والطاقة النفسية وحركة المجتمع وقدر الحضارة. في الجراحة نرى النتائج في أربعة فروع: الأوعية والأمعاء والأورثوبيديا والجملة العصبية تحكم على جودة العمل من عمليات مكللة بالنجاح. في جراحة الأوعية الدموية تأتي النتائج فورية. وشق البطن يندمل في أيام، وتلتئم العظام في أسابيع، وتترمم الأعصاب في أشهر. في الزراعة تعطي شجرة الزيتون أُكلها في سنوات، وفي تربية الطفل تتطلب عملية إنضاجه أربع عقود، ويعس قانون المجتمعات والحضارات في قرون؛ فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من الخليقة؛ فالماضي أشبه بالحاضر من الماء بالماء على حد تعبير ابن خلدون. في عمرنا المحدود نرى نتائج العمليات الجراحية فنبرأ من مرض، ولكن لفهم حركة المجتمع علينا بالعودة إلى حوض التاريخ لقراءة التجارب الإنسانية. لا غرابة أن دعانا القرآن للسير في الأرض والنظر في كيفية بدء الخلق.