براجماتية التعليم وتعليم البراجماتية
تعتبر البراجماتية منتج حضاري أمريكي له جذوره التاريخية والفلسفية في الحضارة الغربية، وهو نموذج له مكوناته وأدواته وتطبيقاته، والناظر في الطرح التربوي من قبل بعض المختصين على مستوى الأفكار والرؤى والبرامج التطويرية يجد أنهم يعيدون بشكل أو بآخر الرؤية البراجماتية – شعروا بذلك أو لم يشعروا- وهذه الرؤى تلقى صداها لدى بعض الكتّاب والإعلاميين فيتم اجترارها من خلال ركوب موجة نقد التعليم أياً كان محتوى الطرح ودون التنبه للمضامين والمآلات .
وما دفعني للحديث عن براجماتية التعليم ما تناوله أحد الزملاء في مقالة له بعنوان " تعليم الحقيقة يؤدي إلى البلادة " تعقيباً على لقاء الدكتور أحمد العيسى في برنامج إضاءات، وهذا التعميم في شأن الحقيقة هو امتداد لنقد الحفظ مقابل التفكير، ونقد التلقين والتعليم الببغاوي ! وغيرها من قائمة جلد الذات وإلقاء الكلام على عواهنه ! وفي المقابل المناداة بالتمحور حول الطالب والمبالغة في ذلك، والإغراق في مهارات التفكير والمناداة بها – وهم بهذا مقلدون غير مفكرين ! - والتدريس بطريقة المشروع وحل المشكلات وغيرها من التطبيقات البراجماتية التي تعرضت للنقد في موطنها الأصلي أمريكا، وأنا أحسن الظن بكثير ممن يطرح مثل هذا الطرح فالجهل بامتداداتها الفلسفية وارد بشكل كبير .
دعونا في عجالة ننظر للبراجماتية ورؤاها وفلاسفتها ثم نعود لموضوع المعرفة والحقيقة، يذهب وليم جيمس – وهو من مؤسسي البراجماتية - إلى أن المنفعة العملية هي المقياس لصحة الأشياء وينادي جون ديوي - وهو من نقل البراجماتية إلى التربية - آن العقل ليس أداة للمعرفة وإنما هو أداة لتطور الحياة وتنميتها؛ فليس من وظيفة العقل أن يعرف، وإنما عمل العقل هو خدمة الحياة . يقول "ويليام جيمس" عن البراجماتية: "إنها تعني الهواء الطلق وإمكانيات الطبيعة المتاحة، ضد الموثوقية ! التعسفية واليقينية الجازمة والاصطناعية وادعاء النهائية في الحقيقة، يقول ديوي :"المعرفة ليست أولية ولا سابقة على التجربة بل إنها نابعة من التجربة نفسها". وتؤكد البرجماتية على نسبية الحقائق، إذ إنها قابلة للتغيير كما أن المعرفة الحقيقية هي التي تساعدنا على إمكانية تطبيقها والتغلب على مشكلات الحياة، "قيمة التصورات العقلية تحددها النتائج العملية للتجربة". ويقول وليم جيمس في مسألة الدين "إن من حق الإنسان أن يؤمن أنه يمكن أن يكون على حق لو آمن".
كما ينتقد جون ديوي في كتابه (تجديد الفلسفة) بكل صراحة وجود غاية نهائية أو مصدر واحد للأخلاق (الولاء، المشيئة الإلهية، إرادة الحاكم) ويعزو سبب القول بمصدر أو غاية واحدة للأخلاق إلى أنه نتيجة النظام الإقطاعي، وهناك سبب يجعل ديوي يرفض الغايات الأخلاقية الثابتة وهو محاولة الخروج من الحيرة والنزاع الحاصل في الفلسفات السابقة للبراجماتية، وفشل الكنيسة في تقديم تصورات صحيحة للقضايا الكبرى!
وخلاصة ما سبق : المنفعة مقياس ومعيار صحة الأشياء، المناداة بالنسبية السائلة، نسبية الأخلاق والقيم والدين .
والبراجماتية حين حصرت الحقيقة في الخبرة فشلت في تقديم شيء عن الحقيقة الكلية، وعندما جعلت الحقيقة من صنع الإنسان هونت من شأن الحقيقة، كما أنها ضخمت من أهمية رغبات المتعلمين وأهملت الموضوعات العلمية الجادة فكانت كما قال أحد النقاد سيركا أكثر من كونها معهدا أكاديميا، كما أن البراجماتية قد تعرضت للنقد منذ السبعينيات بتواطئها مع رجال الصناعة والاقتصاد في ترويض الإنسان الحديث وتدجينه (السبمان) وتدريبه على متطلبات العمل وقيم المصنع، كما أن المبدأ القائل " التعليم عن طريق حل المشكلات يؤدي إلى تحرر عقلي أكثر أصالة مما يمكن الوصول إليه عن طريق الطرق الأخرى " قضية ما زالت موضع خلاف ونقاش، بل إن الدراسة التي أكدت ذلك (دراسة الثماني سنوات 1923م) يصر كثير من النقاد على أن عدد المتغيرات غير محكوم في التجربة الأمر الذي يشكك في نتائجها، هذا النقد للبراجماتية في موطنها الأصلي.
إن البراجماتية هي المسئولة عن النسبية التي يعيشها الغرب والتي قوضت كل المسلمات والإحساس بأي قيم سابقة تحكم رؤيته للحياة. ولعلي أشير إلى موقف ذكره المسيري في رحلته الفكرية وهو يتحدث عن النسبية التي عصفت بالمجتمع الأمريكي يذكر أن أستاذة علم اجتماع في جامعة كاليفورنيا قامت بتدريب الطالبات على الاستمناء (حتى يمكنهن الاستغناء تماماً عن الرجال) في مقرر كان من المفترض أن يتناول سوسيولوجيا الحياة الأمريكية، فاحتج أحد أولياء الأمور، فاتهم بضيق الأفق وعدم تقبل الجديد، فاضطر إلى اللجوء إلى القضاء والقانون الذي فشل تماماً في تحديد موقف واضح ومحدد من الإباحية أو العيب وعزا ذلك إلى ما تراه كل جماعة كذلك، وهذا أمر نسبي يصعب تطبيقه!
هذه هي البراجماتية (بكيج) كامل بتهميشها للمعرفة وبنسبيتها الفضفاضة وقيمها الهلامية السائلة!
إن تهميش الحقيقة يفسر لنا ضعف الثقافة العامة لدى الأمريكيين حتى على مستوى الساسة فكثير من أعضاء الكونجرس لا يفرقون بين العراق وإيران!
لقد أفرز لنا الفكر الغربي جملةً من الثنائيات التي افتعلوا الخصومة بينها فالعلم مقابل الدين والعاطفة مقابل العقل والفرد مقابل الجماعة وهكذا.
إن الحفظ مهارة عقلية بدأت الكتابات تعود وتستدرك أهميته مثل كتابات بوزان وغيره في الذاكرة، وحتى ندرك أهمية الحقيقة تصوروا لو طلبنا من طلاب كلية الطب أو الهندسة الاقتصار على مهارات التفكير- كما ينادي البعض الآن- وأن يتركوا عنهم حفظ النظريات والقواعد والأسس ! باعتبار أن تعليم الحقيقة يؤدي إلى البلادة ! ماذا تتوقعون أن تكون مخرجات هذه الكليات، ثم الذين كتبوا وصنفوا في المجال المعرفي مثل بلوم وغيره جعلوا الحفظ هو قاعدة الهرم لكل مستويات التفكير العليا بدءاً بالفهم فالتطبيق فالتحليل فالتركيب ثم التقويم، إننا لا يمكن أن نتصور فهماً دون حفظ، وإن افتعال الخصومة بين الحفظ والفهم دليلٌ على غياب الأخير عن مفتعل هذه الخصومة!
إن البراجماتية مبدأ نفعي يكرس الفردية والأنانية التي بدأنا نراها في مجتمعنا، وإن الانفلات الخلقي والانسياح القيمي في الغرب هو نتيجة من نتائج البراجماتية النسبية فهل نعي ذلك ؟!
خاطرة :
جميلة هي عبارة أستاذنا الفاضل نجيب الزامل عندما قال "حريٌ بمن يريد أن يسلك طريقاً أن يسأل العائدين من ذلك الطريق".