دروس ناجحة من تجربة كوريا الجنوبية الصناعية!!
ضمن منطق تحليل الدروس المُستفادة من تجارب بعض الدول التي كانت إلى عهد قريب ليست بذاك البُعد من أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية، تُعد كوريا الجنوبية من الشواهد الحديثة على قدرة الدول على تسخير إمكاناتها المُتاحة من أجل تحقيق إنجازات غير مسبوقة تجعل الآخرين يقفون احتراماً لها وتقديراً لطموحاتها في الوصول إلى قمة الصناعية، حيث عجزت عن تسلق سنامها أممٌ لها ما لها من الإمكانات والموارد لو تم توظيفها وتوجيهها الوجهة السليمة لكانت من ضمن الدول المُتقدمة. وقبل الولوج إلى الدروس المُستفادة، جدير بنا أن نقدم كوريا الجنوبية كأمة متحضرة قبل أن تكون القوة الاقتصادية رقم 12 على المستوى العالمي. شبه الجزيرة الكورية تقع شرق آسيا، وكان يُطلق عليها "مملكة سيلا" وحكمتها أسرة "كوريو" حيث أخذت مُسماها من هذه الأسرة الحاكمة. خضعت كوريا الجنوبية للاحتلال الياباني، حيث تم تقسيم شبه الجزيرة الكورية إلى كوريا الشمالية والجنوبية وانتهى هذا الاحتلال عام 1945، بإمكانات وموارد كورية جنوبية محدودة لا تتعدى التنجستن وفحم من الدرجة المُنخفضة والحديد. مساحتها لا تتجاوز (99,274) كم مربعا وتعدادها السكاني في حدود الـ 48 مليون نسمة عام2007. تُعتبر كوريا الجنوبية منطقة أحراش وغابات على أنه تمت إزالتها بسبب قيام الحرب الكورية، وقد تمخض تقسيم الجزيرة الكورية المُزدحمة بالسكان إلى ازدياد المهاجرين من الجزء الشمالي إلى الجنوبي، فقدان الإنتاج من الحديد والصلب وبقية المعادن، وزيادة الإنتاج الزراعي والغذائي. أدى نشوب الحرب الكورية عام 1950 إلى ضياع المكاسب الضئيلة التي تحققت من حيث توفير الطاقة، ونظام النقل والمواصلات، حيث دُمر تقريباً نصف طاقاتها الصناعية والإنتاجية كالمنسوجات وبناء السفن، وفي هذه الظروف الشديدة التعقيد، كان على الدولة العمل على تحقيق هدفين رئيسيين الأول محاولة منع انخفاض الاستهلاك الوطني باستخدام سياسة إحلال الواردات وإنتاج السلع الاستهلاكية محلياً والأخذ بنظام حمائي مُعقد عن طريق تعدد أسعار الصرف وفرض ضرائب عالية وقيود كمية على الواردات. أما الهدف الرئيس الثاني فكان الحصول على أكبر قدر من التمويل والمساعدات الخارجية من أجل إعادة بناء الصناعات والبنى التحتية التي دمرتها الحرب. إلا أن الشيء الأهم في دراسة التجربة الكورية الجنوبية، هو التركيز على الظروف الزمانية التي مرت بها هذه التجربة، لأنها قد تُعطي الإشارة الخاطئة خاصةً في ظل المُتغيرات الدولية الراهنة كالعولمة وتدويل الأزمات وأُحادية القُطب، ولهذا فإن النمو السريع الذي تحقق لليابان مثلاً لم يكن ليتحقق لولا أن الخبرات الفنية والإدارية والشبكات الصناعية لم تتضرر بذات الدرجة مقارنة بالبنية التحتية، وكذلك الحال بالنسبة لكوريا الجنوبية حيث تم تدمير منشآتها وتجهيزاتها لكن العمال بقوا وبقت معهم خبراتهم الإنتاجية ومهاراتهم الإدارية والفنية. وهنا أود الإشارة إلى أهمية التعليم والتدريب كرافد أساس من روافد التنمية وبيت القصيد هُنا تنمية العنصر البشري. فالتركيز على التعليم والتدريب بجميع أشكاله وصوره محرك أساس للتنمية المُستدامة ودافع قوي لتحقيقها شريطة مراعاة نوعية التعليم ليشمل على وجه الخصوص التعليم الفني والتطبيقي لا النظري فقط. لا شك أن ظروف الحرب قد خدمت كوريا الجنوبية، حيث اتبعت حكومتها سياسة حمائية قوية قد لا تكون بذات الفعالية لو كانت في هذا العصر، وعليه فقد أثبتت الدراسات الاقتصادية الحديثة أن السياسات الحمائية التي ترتكز على خفض الواردات الأجنبية لها تأثير سلبي في الإنتاج بشكل عام، وعليه فإن التنافسية ضرورة في هذا العصر مع تكثيف الجهود للخروج بصناعة تقف على قدميها من دون الدعم الحكومي المباشر وغير المباشر إن كان لنا أن ندخل مُعترك الصناعة من أوسع أبوابه. ثمة عامل آخر مهم وهو دور الدولة المفصلي، خاصةً في ظل الأزمات الطاحنة كالحروب والكوارث الطبيعية، وهذا ما حصل فقد ساهمت الحكومة الكورية في الوقوف بحزم لعلاج آثار الدمار الذي حل وذلك من خلال الدعم المباشر للنهوض بالصناعة، وذلك من خلال العمل على توفير المساعدات الخارجية وزيادة الادخار المحلي عامة، حيث كانت العقبة الرئيسية لعلاج ما أحدثته الحرب من خسائر مادية. لقد أصبح ظهور المشروعات الصناعية الأساسية ذات الطابع الثقيل لتواجه عزوف القطاع الخاص عن القيام بها، كذلك العمل من خلال مؤسسات الدولة للتحكم في السياسة المالية والنقدية من خلال وضع نظام ضريبي مرن وتقديم الحوافز للمصدرين وزيادة المُدخرات المحلية الحكومية لتغطية نقص المُدخرات الخاصة نقطة مضيئة في تاريخ الحكومة الكورية، ولهذا نجد أن الدولة قد ركزت جهدها بشكل عام على تعزيز المشروعات العامة العملاقة لخدمة القطاع الخاص ومنع التركيز الاحتكاري. إن الخطوة الكُبرى تمثلت في التخطيط الشامل والمدروس بحيث تم استخدام جهاز الأسعار كأداة للتخطيط المركزي والتركيز على استراتيجية التصنيع للتصدير، ما ساعد على خفض الإنفاق الحكومي وتوجيهه للرفاهية الاجتماعية ورفع مستوى الكفاءة في الإنتاج. ولعل تجربة المملكة الريادية في تجهيز البنية التحتية وإنشاء الشركات الصناعية العملاقة وتوفير متطلبات القطاع الخاص يشبه ما قامت به الحكومة الكورية، لكن يبقى تهيئة العنصر البشري التهيئة المناسبة ليأخذ دوره الفعال في التنمية. مثل هذا الدور الحكومي سيُساعد على تجنب الازدواجية في الجهود، وكذلك محاربة جميع أشكال الفساد والتجاوزات الإدارية، وذلك من خلال تفعيل القوانين والأنظمة لتحقيق المصلحة العامة.