تُشل المنظمة..عندما يصبح من يفكر ويعمل أقلية
عندما يمعن الإنسان التفكير في قضية من القضايا يعقب ذلك سلوك، وهذا السلوك قد يكون مفيدا يضيف قيمة للعمل وقد لا يكون كذلك، كما يختلف السلوك من حيث الفعالية بحسب المفاهيم والقيم التي يؤمن بها الإنسان فمنهم من يترجم سلوكه إلى أفعال ملموسة، ومنهم من يكتفي بالحديث عما يجب فعله، وبالتالي يتفاوت الناس في طريقة تعاطيهم مع الأحداث وفقا لذلك، فينقسمون إلى ثلاث فئات: فئة تفكر بعمق فيما يحدث وتبذل جل طاقتها لترجمة هذه الأفكار إلى أفعال ملموسة، والفئة الثانية تفكر بعمق ولكنها تستهلك معظم طاقتها في الحديث عما يجب فعله فهي مقلة في أفعالها غزيرة في أقوالها، وفئة ثالثة مقلة في التفكير ومقلة في فعل ما يضيف قيمة للعمل فمعظم طاقتها تستهلك في تنفيذ ما يطلب منها.
عند تدقيق النظر في كل أنواع المنظمات كالشركات والمؤسسات والمدارس والجامعات في القطاع العام أو القطاع الخاص نلاحظ أن نسيج كل منها يتألف من مزيج من كل الفئات آنفة الذكر ولكن بنسب متفاوتة، فمنها من تشكل الفئة الأولى أغلبية في قياداتها ومنها من تكون الأغلبية من الفئة الثانية ومن النادر أن تكون الأكثرية من الفئة الثالثة لأنها فئة تميل إلى التبعية في أفعالها وبالتالي لن يكون لها حضور طاغ بأي شكل من الأشكال، كما أن أكثر المنظمات استقرارا هي التي تتكون من مزيج متوازن من هذه الفئات، وأكثرها عرضة للاهتزاز في أدائها وإنتاجيتها هي المنظمات التي يشكل غالبيتها مزيجا من الفئتين الثانية والثالثة، لأن أغلب القياديين فيها سيكونون ممثلين من هاتين الفئتين، وهنا مكمن المشكلة فتصور معي حال منظمة مسؤولة عن إنتاج سلعة أو خدمة حيوية للمجتمع يسيطر على قيادتها فئة من الموظفين تفكر كثيرا في المصاعب والتحديات التي تواجه منظمتهم ولكنها تستهلك معظم وقتها وطاقتها في الحديث عما يجب فعله والنقاش الذي لا يجدي نفعا ولا ينتج عملا بالتأكيد ستصاب معظم عمليات هذه المنظمة بالشلل وعدم القدرة على الاستمرار في الإنتاجية.
إحدى الشركات المحلية كانت تعاني مصاعب في التسويق وانخفاضا متواصلا في المبيعات في حين أن منتجاتها لا تقل جودة عن المنتجات المنافسة إن لم تتفوق عليها ولكن كانت تفقد سنويا جزءا من حصتها في السوق لمصلحة أي منتج جديد يدخل السوق لأول مرة، كما أن أرباحها بدأت تتناقص بشكل حاد بفعل ضعف قدرتها على تسويق منتجاتها وارتفاع التكاليف التشغيلية الناتجة عن عدم استغلال كامل طاقتها الإنتاجية. في أحد الاجتماعات الدورية للإدارة التنفيذية لهذه الشركة وقف الرئيس التنفيذي وصاح في الجالسين قائلا: لدينا أمر غريب لا أستطيع فهمه أو تفسيره، فعندما تسلمت مهام عملي كرئيس للشركة كنت سعيدا في بادئ الأمر بما يدور في الاجتماعات الدورية لأنني كنت أرى كل المسؤولين يشاركون بفعالية في تقديم الحلول والمقترحات لمعظم المشكلات التي تطرح في الاجتماع، ولكن مع مضي الوقت صرت أتعجب من الوضع وحيرتي تزداد يوما بعد يوم فعلى الرغم من كل ما يطرح من أفكار جيدة لعلاج المصاعب التي تواجه الشركة لا أرى على الأرض أي تحسن في الأداء، فمعظم مشكلات الشركة ما زالت قائمة والنتائج غير المرضية مستمرة، فأصبحت أتساءل!! ماذا يفعل كل المسؤولين بعد أن تنفض الاجتماعات؟ لماذا لا يتم ترجمة الأفكار المطروحة إلى عمل فتحل المشكلات؟ هل ننتظر أحدا من خارج الشركة كي يأتي ويتولى تنفيذ الأفكار والمقترحات؟ لقد بدا رئيس الشركة محبطا ومتوترا بسبب ما آلت إليه نتائج الأداء المتردية من جانب وبسبب الضغوط التي تمارس عليه من أعضاء مجلس الإدارة لتحسين الموقف المالي للشركة من الجانب الآخر.
من الواضح أن مشكلة الشركة كانت تتركز في أن أغلب المسؤولين فيها يمكن تصنيفهم أنهم من الفئة الثانية التي تفكر بعمق ولكنها تستهلك معظم طاقتها في الحديث عما يجب فعله، لذلك لم يكن رئيس الشركة يرى عملا على الأرض يتصدى ويعالج هذه المشكلات، من الطريف في الأمر أن رئيس الشركة أعجب بأحد المسؤولين ممن يعتبرون أكثر الشخصيات تمثيلا لهذه الفئة، ولشدة إعجابه بهذه الشخصية قام بتكليفه بإحدى أهم الوظائف في الشركة متأملا أن يسهم في انتشال الشركة من الوضع السيئ الذي وصلت إليه، ولكن لم يمهل الوقت رئيس الشركة حتى يكتشف بنفسه مقدار الخطأ القاتل الذي ارتكبه إذ تقرر على عجل نقله ليتولى مسؤولية إحدى الشركات الأخرى فحل محله رئيس جديد اكتشف سريعا أن بقاء هذا المسؤول في هذه الوظيفة الحساسة سيسفر عن نتائج لا يحمد عقباها فمعظم ما يتفق عليه في الاجتماعات يظل حبيس أدراج المكتب فاستبعده رئيس الشركة وتولى بنفسه مسؤولية الإشراف على الإدارة لحين إيجاد البديل المناسب، ولكن الأكثر طرافة أن هذا المسؤول بعدما نحي عن هذه الوظيفة قدم استقالته والتحق بشركة أخرى وبمركز وظيفي جيد لا يقل كثيرا عن سابقه ويبدو أن من ينتمون إلى الفئة الثانية التي تفكر كثيرا وتستهلك معظم طاقتها في الحديث عما يجب فعله لديها مقدرة ومهارة جيدة لتسويق نفسها ولكن سرعان ما تنكشف عندما يكون حجم التحديات في العمل كبيرا.
اللافت للنظر أن هذه الشركة استعادت عافيتها وأصبحت من أكثر الشركات تحقيقا للأرباح في القطاع الذي تعمل فيه بعدما تغير مالكوها وتغير الكثير من المسؤولين فيها فيبدو أن التوازن قد عاد إلى المزيج الذي تتكون منه قيادات الشركة فأصبح من يفكر ويعمل أغلبية في الإدارة التنفيذية بعدما كانوا أقلية فتحسن تبعا لذلك أداء العمل فيها وعادت لتحقيق الأرباح الكبيرة.