حتى ننقذ أقسام الاقتصاد في جامعاتنا
الاقتصاد واحد من أهم التخصصات التي يحتاج أي بلد في العالم إلى أن يمتلك متخصصين فيه على قدر عال من التأهيل والتميز، فكفاءة استخدام الموارد الاقتصادية أهم بكثير من حجمها، والفرق بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة ليس في حجم ما تملكه من موارد وإنما في كفاءة استخدام المتوافر منها. ودون أدنى شك, فإن هذه الأهمية تصبح أكبر عندما يعتمد أداء الاقتصاد بشكل أساس على كفاءة وفاعلية القطاع الحكومي، كما هو الحال في المملكة، باعتبار أن الدولة تملك وتدير أهم موارد البلاد وهو النفط.
لذا من الأهمية بمكان أن يتوافر في بلادنا خبراء اقتصاديون على مستوى عال من التأهيل والكفاءة، وهذا أمر يكاد يكون متعذرا تماماً في الوقت الحاضر في ظل الإحجام شبه التام من قبل الطلبة المتميزين عن الالتحاق في أقسام الاقتصاد في الجامعات السعودية، بسبب قناعة لدى الطلاب أن تخصصات أخرى مثل الهندسة والحاسب الآلي والمحاسبة وإدارة الأعمال تمنحهم تأهيلاً أكثر مناسبة لاحتياجات سوق العمل وتؤمن لهم فرصا وظيفية أفضل مستقبلا. من ثم لا يلتحق في أقسام الاقتصاد في معظم الأحيان إلا من لا يتم قبوله في الأقسام الأخرى في كليات العلوم الإدارية، وأعدادهم قليلة جداً وإمكاناتهم تتصف في الغالب بالتواضع الحاد، الأمر الذي انعكس سلباً على كفاءة برامج أقسام الاقتصاد في جامعاتنا ونوعية مخرجاتها.
ولو أن الأمر اقتصر على ذلك لكان أهون، لكن المشكلة أن هناك عرفاً في جامعاتنا يتمثل في أن الأقسام العلمية عندما ترغب في تعيين معيدين تختار من بين خريجي القسم أو ممن يحملوا مؤهلاً في التخصص نفسه فقط، وهذا أسلوب مناسب عندما تكون نوعية خريجي وخريجات القسم العلمي تتيح مجالاً واسعاً لاختيار عناصر عالية الكفاءة. إلا أن هذا أمر غير ممكن في ظل تردي نوعية مخرجات أقسام الاقتصاد في الجامعات السعودية حاليا، حيث تضطر تلك الأقسام، وأمام هذا الوضع، إلى أن تكون مرنة جداً في معاييرها لتتناسب مع ما هو متاح، وهو ما يمثل كارثة بالنسبة لكفاءة أعضاء هيئة التدريس في تلك الأقسام مستقبلا، وفي تخصص لا تقتصر أهميته على القسم العلمي نفسه وإنما تتعداه إلى مصلحة بلادنا بشكل أوسع، فالحاجة ماسة لأن يكون أساتذة الجامعات في هذا التخصص على كفاءة عالية تمكنهم من تقديم المشورة الاقتصادية الصائبة لقطاعات الدولة المختلفة، وأن تكون تلك الأقسام حاضنة ومصدرة لكفاءات متميزة يمكن أن تسهم بفاعلية في إدارة اقتصادنا مستقبلا.
حل هذه الإشكالية يتمثل في إدراكنا أن معظم ـ إن لم يكن جميع ـ علماء الاقتصاد البارزين على مستوى العالم والحائزين جائزة نوبل في الاقتصاد يندر أن تجد بينهم من كان تخصصه الجامعي في مجال الاقتصاد، فمعظمهم يحملون مؤهلا جامعيا في الرياضيات أو الإحصاء أو الفيزياء أو الهندسة، وتخصصوا في الاقتصاد في دراستهم العليا فقط. فالاستخدام المكثف جداً للرياضيات والإحصاء في الاقتصاد يجعل امتلاك الطالب لخلفية قوية في هذه التخصصات أهم بكثير من خلفيته الاقتصادية، ومن يلتحق في الدراسات العليا وهو يحمل مؤهلا جامعيا في الرياضيات أو الهندسة يمكنه بسهولة معالجة أي نقص في خلفيته الاقتصادية من خلال دراسة مادتي التحليل الكلي والتحليل الجزئي على سبيل المثال، بعدها سيكون في وضع أفضل بكثير لمواصلة تعليمه العالي في مجال الاقتصاد مقارنة بطالب يحمل مؤهلا جامعيا في الاقتصاد خلفيته في الرياضيات ليست بالقوة نفسها.
ومن خلال تبني أقسام الاقتصاد في جامعات المملكة لاستراتيجية تستهدف استقطاب خريجين وخريجات متميزين ومتميزات في تخصصات مثل الرياضيات والإحصاء والهندسة والفيزياء والحاسب الآلي يتم تعيينهم معيدين وابتعاثهم لمواصلة دراستهم العليا في مجال الاقتصاد، يصبح هناك فرصة رائعة لاختيار عناصر متميزة مؤهلة جدا لمواصلة الدراسة العليا في مجال الاقتصاد في أبرز الجامعات العالمية، والجامعات بتبنيها لمثل هذا الإجراء لا تخدم احتياجها فقط, وإنما تقدم أيضا خدمة جليلة لبلادنا من خلال إيجادها البيئة المناسبة التي تسمح بظهور اقتصاديين متميزين ليس على المستوى المحلي وإنما حتى على المستوى العالمي.