عواقب تقديم السياسة الشرعية على الأدلة الشرعية الظاهرة

قد أوضحت سابقا أننا يمكن حصر أقوال علماء الديار السعودية في فلوسنا المعاصرة تحت قولين رئيسيين.
القول الأول وهو قول عموم شيوخ كبار علماء الديار السعودية، باستثناء الشيخ ابن باز، وهم الذين قد ألحقوا فلوسنا المعاصرة بالفلوس القديمة ثم اعتمدوا بعد ذلك على أقوال غير مشهورة في بعض المذاهب فأجروا الربا في الفلوس المعاصرة. فهم بهذا القول قد تركوا الباب مفتوحا للحوار والاحتجاج بأقوال جماهير السلف في عدم جريان الربا في الفلوس المعاصرة.
والقول الثاني هو الفتوى المعتمدة رسميا من هيئة كبار العلماء عام 1393هـ والتي أقفلت تماما باب الحوار وذلك بقياس الفلوس المعاصرة على الذهب والفضة بعد سكهما كنقدين أي الدينار والدرهم. وقد بينت في المقال السابق انتفاء حيثيات فتوى هيئة كبار العلماء مما يبطل استمرار صلاحية نتيجتها، كما بينت خطورة لازمها اليوم من عدم جريان الربا والزكاة في الذهب والفضة واستشهادها بالشاذ والغريب أمام المشهور والمثبت من أقوال المذاهب.
فلماذا إذن لم تتضح المسألة لكثير من الناس؟ الجواب هو أن السياسة الشرعية في التشديد على البنوك التي تبناها علماؤنا - رحمهم الله - قد نتج عنها خلط عظيم في الفهم الشرعي للمعاملات المعاصرة تأصيلا وتطبيقا عند كثير من كبار طلبة العلم الشرعي فضلا عن عامة الناس.
فما زال اللبس بين القرض الربوي والبيع الربوي يشكل حاجزا منيعا لكثير من الناس لأن يفهموا المسألة المطروحة هنا. وقد بينت الفرق بينهما في مقالين سابقين "كيف يفلح قوم خلطوا القرض بالبيع" و"الضبابية بين القرض والتمويل أما آن لها أن تنجلي" وأعيد فأوجز هنا. تمويلات البنوك للشركات محرمة على الفتوى المعتمدة الآن لأنها بيوع ربوية وليس لأنها قروض، وإن كان قد غلب لفظ القرض عليها. فإطلاق لفظ مكان لفظ لا يغير الوصف الشرعي الذي ينعقد به الحكم. وقد جاء في كلام العلماء كثيرا جدا إطلاق لفظ القرض على البيع تجوزا لا قصدا لمعناه الشرعي. مثاله قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن عثيمين وغيرهما "استقرض رسول الله الجمل بالجملين" وهم لا يقصدون القرض بل البيع وإلا فقد جعلوا من النبي الكريم مرابيا يتعامل بالربا، وحاشاه عليه الصلاة والسلام. فالقرض هو عقد إرفاق ومعاوضة غير محضة، فإذا جر نفعا أصبح ربا وهو لا يقتصر على الذهب والفلوس بل على كل شيء، ولو كان ترابا أو منفعة أو بيضا أو جملا أو قماشا. أي أن كل ما جاز تبادله إذا تم وفيه قصد الإرفاق فهو قرض ويصبح ربا إذا جر نفعا وما عدا ذلك فهو بيع ومرجع ذلك للنية. وسبحان الله فهذا لا يحتاج إلى شرح فهي فطرة إنسانية لا تخفى حتى على الصبيان. فالطفل عندما يأتي يقترض من آخر، يأتي وهو يطلب جانب المعروف والإحسان من المُقرض. وتمويلات البنوك والسندات ليست قروضا بالمعنى الشرعي، بل هي مبادلة مال بمال أي هي بيوع. وكذلك الودائع فهي شرعا عقد إحسان ففيه معنى من القرض. والإحسان غير مقصود في ودائع وحسابات البنوك لا من المودع ولا من البنك فهي شرعا مبادلة منافع أي تدخل تحت باب البيع ولم يُقصد معنى الإرفاق والإحسان من الطرفين مطلقا في هذه المعاملات ومرجع ذلك للنية التي هُجرت وأُهملت في الصيرفة الإسلامية المعاصرة مع أنها أعظم أصل من أصول الدين. وبما أن الفتوى القائمة الآن على أن الفلوس المعاصرة مال ربوي بقياسه على النقدين فينبني على ذلك أن تمويلات البنوك والسندات والودائع بفائدة هي بيوع ربوية. فإذا ثبت بالدليل الشرعي عدم صلاحية استمرار هذه الفتوى التي تقيس الفلوس على النقد وأن الفلوس المعاصرة ليست أموالا ربوية أصبحت تمويلات البنوك وودائعها والسندات جائزة بإجماع العلماء المعتبرين من الأمة.
وأصل الغموض والخلط الذي اكتنف الناس هو أن هدف تحقيق جريان الربا في الفلوس المعاصرة كان محسوما في جميع الأطروحات السابقة التي اشتغلت في تأصيل وتكييف الفلوس المعاصرة في تلك الفترة. بدليل أن أي تكييف فقهي للفلوس المعاصرة من شأنه أن يؤدي إلى احتمالية نفي جريان الربا عنها يجعلونه (أي هذا الاحتمال) أول برهان على نقض هذا التكييف! رغم أن الهدف الرئيس من التكييف هو الوصول إلى حكم جريان الربا في الفلوس المعاصرة.
وانتبه أخي القارئ الكريم إلى هذه النقطة، أي أن الحكم بربوية فلوسنا لم يتوقف عند تقريره سلفا بل قد تجاوز ذلك فجُعل برهانا على بطلان ما قد يؤدي إلى نقضه!
والمتتبع لتلك الفترة سيجد أن معظم الأطروحات التي تناولت التكييف الفقهي للفلوس المعاصرة قي قياسها على النقدين هي عبارة عن تكرار وإعادة لمقاطع من كتاب الورق النقدي الذي كان رسالة الماجستير للشيخ ابن منيع، حفظه الله، التي كانت نسبة إلى زمانها وبيئتها رسالة متقدمة علميا على ما فيها من معطيات وحيثيات تحتاج إلى نظر كما أن أطروحاتها تعتمد على نظريات ووقائع قديمة تعود للقرن الثامن عشر الميلادي وما قبله وسأخصص لهذه الرسالة وقفة مستقبلية.
وبما أن الصحابة يتفاوتون في العلم والفضل فلا حرج من التنبيه على أن قرارات المجمعات الفقهية لا تعكس رأي كبار العلماء فيها، بل رأي أغلبية المجتمعين بصرف النظر عن مكانتهم الفقهية وخير مثال على ذلك قرار هيئة كبار العلماء.
فالهيئة الموقرة في تقرير هذه الفتوى عام 1393هـ كانت قد تضمنت ستة عشر عضوا لم يكن من بينهم الشيخ عبد الله بن بسام عالم الحجاز والشيخ ابن عثيمين اللذين قد أوضحت سابقا ردهما ورفضهما لهذا القياس لضعف شواهده وخطورة لوازمه.
وقد توقف خمسة من كبار الستة عشر الذين حضروا الجلسة عن المصادقة على هذا القياس وهم: رئيس الدورة الثالثة محمد الأمين الشنقيطي، عبد الرزاق عفيفي، عبد الله بن حميد، عبد الله بن غديان، صالح الحيدان.
وأما الأحد عشر الذين أقروا هذا القياس فهم عبد الله خياط، عبد المجيد حسن، عبد العزيز بن صالح، عبد العزيز بن باز، إبراهيم محمد آل الشيخ، سليمان بن عبيد، محمد الحركان، راشد بن خنين، صالح بن غصون، عبد الله بن منيع، محمد بن جبير. رحم الله من لحق منهم بالرفيق الأعلى وأمتعنا بمن بقى منهم معنا.
والشيخ ابن باز، رحمه الله، وإن كان هو الوحيد من بين أنداده ( أي شيوخ كبار العلماء) من تبنى قياس الفلوس المعاصرة على النقدين، ولكن الواقع يشهد أن الشيخ ابن منيع جزاه الله خيرا وأمتعنا بعمره هو المُنظر الحقيقي لقياس الفلوس المعاصرة على الذهب بواسطة علة النقد والمتمثل برسالته للماجستير "الورق النقدي"، الذي أصبحت الدستور والمرجع والنسخة الأصلية لمعظم الأطروحات بما فيها قرار هيئة كبار العلماء التي بحثت المسألة وأقرت قياس الفلوس المعاصرة على النقدين.
والمتتبع أيضا لتاريخ المعاملات المعاصرة سيتبين له أن الشيخ ابن باز، رحمه الله، (بعد أربعين عاما من الفتوى) هو من فتح باب التورق في آخر حياته المباركة لما رآه من الضيق والحرج الذي وقع فيه المسلمون بسبب قياس الفلوس على النقدين، وأن الشيخ بن منيع هو من قاد الصيرفة الإسلامية المعاصرة.
فالشيخ ابن منيع، جزاه الله، خيرا وأمتعنا بعمره هو أصل التشديد والتضييق في مسألة الفلوس المعاصرة، وهو أصل التيسير والتوسع في المصرفية الإسلامية، فرحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية.
كما أن المتتبع لتلك الفترة سيجد أن العلماء، وإن اختلفوا في تكييف الفلوس المعاصرة وجريان الربا فيها أو عدمه فهم قد اجتمعوا على تفسيق البنوك والتشديد عليها في المعاملات متأولين بذلك للسياسات الشرعية، فأنشأ هذا التشديد تصورا خاطئا عند الناس عن أصل أحكام المعاملات المعاصرة.
فتجد علماء تلك الفترة رحمهم الله مثلا يفترضون افتراضات نابعة عن تصورات غير صحيحة تعود إلى فلسفة أوروبا في عصور ما قبل النهضة، ومدار هذه الفرضيات أن جوهر عمل البنك هو إقراض الفقراء ثم يُنظرون كل المعاملات مع البنوك على أساس ذلك الافتراض، ومع مرور الزمن بقي الحكم ونُسي الافتراض! فاختلطت في بحوث المجمعات الفقهية المعاصرة المفاهيم الشرعية بالغربية بالفلسفية.
ومن العجيب أنك تجد بعض العلماء قد أصلوا القرض تأصيلا شرعيا مجمعا عليه في الأمة وفي الفطرة الإنسانية ثم يعود العالم نفسه في باب آخر ويجعل معظم المعاملات التبادلية في البنوك قروضا، على هامش حديثه دون دليل ولا تأصيل بقوله مثلا: قاله بعض العلماء أو نُقل عن بعض الصحابة، أو يقول ولا ينطبق هذا على البنوك (وكأن البنوك مستثناة من حكم الله) ثم يعللها عقلا لا شرعا مستندا إلى الفلسفة الأوروبية القديمة للربا، ناقضا بذلك كل ما أصله من تأصيل شرعي وعقلي قوي في باب القرض. وما ذلك إلا لأن التشديد على البنوك كان هو الهدف الأساسي التي أصبحت تُبنى عليه الفتوى، والمستند في ذلك هو السياسة الشرعية.
وانتبه أخي القارئ الفطن إلى الغرض الذي تحقق بهذا الخلط بين الأدلة الشرعية وبين الاحتياط والسياسة الشرعية. فالواقع يشهد بأن الخلط بين هذين الأمرين، (أي أمر تأصيل الفلوس وخطأ تصور المعاملات المعاصرة) قد شد بعضهما بعضا وحفظ بعضهما بعضا ضد البنوك وصار أحدهما درعا للآخر في الدفاع من أي اختراق لهذا الغموض الذي لف هذه المسألة. ولو أدرك علماؤنا، رحمهم الله، درجة الغموض والضبابية التي تاهت فيها أفهام كثير من كبار طلبة العلم فضلا عن غيرهم في هذه المسائل لأعادوا النظر في هذه السياسات الشرعية.
 وختاما: فإن إدراك أصل وجوهر المسألة هو أساس طريقة التفكير الصحيح في العلوم الدينية والدنيوية على سواء. ولو أن مسلما حاج نصرانيا أو مشركا في فروع الدين لخانته الحُجة. والإفحام والغلبة دائما ستكون من حظ ونصيب من يُحاجج في الأصول فإن أفحم المعارض في الأصل ألزمه بالفرع.
قال الشيخ علي الطنطاوي "إن الطريق الصحيح للاجتهاد هو أن نجمع الأدلة الثابتة ونفهمها ونتبعها فحيثما انتهت بنا وقفنا إما إلى التحريم وإما الإباحة. وبعض الناس يقلبون الوضع، فيضعون النتيجة التي يريدونها إما التحريم المطلق وإما الإباحة ثم يأخذون من الأدلة ما يؤدي بهم إلى هذه النتيجة ومنهم من يدع الصحيح ويأخذ ما لم يصح وقد يفسر اللفظ على معنى يحصره فيه مع إمكان فهم معنى غيره". انتهى
ورحم الله الشيخ علي فقد اختزل كل الأساليب والوسائل التي قلبت الوضع في طرح أطروحات تأصيل الفلوس المعاصرة وتطبيقاتها ومن ثم كان لا بد من حتمية نتاجها والذي أُسمي بالصيرفة الإسلامية.
وللوصول فما زال للأصول حديث لم يكتمل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي