المطلوب رفع شامل في كفاءة استخدام الطاقة في المملكة

ليس هناك من شك في أن أفضل وسيلة يمكن بها الحد من الإسراف في استهلاك أي سلعة أو خدمة أن يدفع مستهلك تلك السلعة أو الخدمة السعر الذي يجبره على استهلاكها بقدر حاجته الضرورية، وأي حلول أخرى لا يمكن أن تجدي نفعا، كما أن إدارتها في غاية الصعوبة وتخلق بيئة تسهم في انتشار الفساد والاحتيال. أيضاً ليس هناك من شك في أن تقديم الدعم الحكومي للمنتجين ليس مجديا في المدى الطويل، حيث يتسبب استمرار هذا الدعم مدة طويلة في تحقيقه عكس أهدافه التي وضع من أجلها، لما ينتج عنه من إضعاف في قدرة الصناعة المدعومة على المنافسة، كونه يشجعها على عدم اتخاذ إجراءات تستهدف خفض التكاليف ورفع كفاءة التشغيل، فهذا الدعم يمكنها في أحيان كثيرة من تحقيق أرباح مجزية دون اضطرارها إلى تصحيح مستوى أدائها وتطوير منتجاتها.
والحقيقة التي لا جدل فيها أن برنامج دعم أسعار مصادر الطاقة في المملكة يعد واحداً من أخطر برامج الدعم المقدمة من قبل الدولة وأكثرها ضرراً باقتصادنا، لما ترتب عليه من سوء استخدام واضح في مصادر الطاقة في المملكة ومن قبل جميع الفئات المستفيدة من هذا الدعم، وليس فقط من قبل مستهلكي المشتقات النفطية فدعم صناعة البتروكيماويات من خلال سعر الغاز المصاحب متدني القيمة لم ينجح في خلق صناعة بتروكيماوية متقدمة في المملكة، بل على العكس من ذلك، جعل شركات البتروكيماويات تركن وتكتفي بالأرباح الهائلة التي تحققها من مجرد تحويل هذا الغاز إلى مواد بتروكيماوية أولية بدلاً من الدخول في صناعات أكثر تعقيداً وتقدما تحقق قيما مضافة حقيقية في هذه الصناعة، ما يعني أن هذا الدعم أسهم في الواقع في تخلف صناعة البتروكيماويات في المملكة بدلاً من أن يسهم في تطويرها. أيضاً فإن رخص النفط الخام الذي تستخدمه محطات تحلية المياه وشركات الكهرباء أسهم في عدم اهتمامها برفع استخدامها لكفاءة مصادر الطاقة، رغم أن نسبة الطاقة الحرارية الضائعة خلال عملية الحرق تقدر بما قد يصل إلى 60 في المائة من الطاقة الحرارية المنتجة، وتدني السعر الذي تحصل به على هذا النفط الخام جعلها غير مكترثة بذلك. وينمو استهلاك المملكة من المشتقات النفطية بشكل هائل، حيث يصل معدل النمو السنوي إلى نحو 8 في المائة، والذي يمثل واحداً من أعلى معدلات نمو استهلاك هذه المشتقات في العالم إن لم يكن أعلاها على الإطلاق، والذي يعود بشكل أساسي إلى تدني سعر هذه المشتقات الذي ساعد على الإسراف في استخدامها فآخر ما يفكر فيه أي فرد في المملكة عند قراره شراء سيارة أو استخدامه لها تكلفة الوقود، كما زاد من هامش الربح الذي يحققه مهربو تلك المشتقات إلى الدول المجاورة.
لذا فإن الحديث عن الهدر الهائل والإسراف الكبير في استهلاك المشتقات النفطية رغم دقته وأهميته حديث منقوص كونه لا يأخذ في الاعتبار أن هناك هدراً شاملاً في استخدام مصادر الطاقة في المملكة بأنواعها كافة، ومن قبل جميع مستخدميها، فهم جميعاً مستفيدون من دعم غير مبرر شجعهم على سوء الاستهلاك والاستخدام، ما يعني أن الإسراف وعدم كفاءة الاستخدام لا يقتصر فقط على المشتقات النفطية وإنما يشمل جميع مصادر الطاقة في المملكة، بالتالي هناك حاجة وضرورة ماسة إلى إجراء عاجل يوقف هذا النزيف الاقتصادي بجميع أشكاله وصوره كوننا لا نقدم أي خدمة لاقتصادنا من خلال هذا الدعم بل نلحق به بالغ الضرر. فليس من مصلحة اقتصادنا أن يكون لدينا عشرات الشركات البتروكيماوية الضعيفة غير القادرة على المنافسة التي همها وهدف وجودها الوحيد استغلال الفرق في سعر الغاز الذي تحصل عليه وسعره في السوق العالمية. أو أن تجد محطات تحلية المياه وشركة الكهرباء أن بإمكانها مواصلة هذا الهدر العجيب لمصادر الطاقة دون الحاجة إلى تطوير أساليب أكثر كفاءة وأقل هدرا للطاقة الحرارية المنتجة أو استخدام مصادر بديلة كالفحم الحجري أو الطاقة النووية بدلا من الاكتفاء بحرق النفط الخام دون أدنى اكتراث بحقيقة تكلفته الاقتصادية. أو ألا يعير المستهلك تكلفة الوقود أي اهتمام، كون تكلفة وقود سيارته لعام كامل قد تقل عن قيمة فاتورة جواله لشهر واحد، أو أن يجد المهربون أن هناك فرصة سانحة لتحقيق أرباح عالية من بيع تلك المشتقات المهربة بأسعار مضاعفة في دول مجاورة.
الوضع المالي لقطاع واسع من أفراد مجتمعنا قد يحد من إمكانية اتخاذ الدولة قرارا بزيادة ذات بال في أسعار المشتقات النفطية، كأن تتم مضاعفة أسعارها مرتين مثلا، إلا أنني وكما اقترحت في مقال سابق عنوانه ''رفع الوقود مقابل تعويض''، ولكي يصبح هذا الإجراء مقبولاً من قبل معظم أفراد المجتمع، فإنه يمكن صرف بدل شهري مقابل زيادة تكلفة الوقود يضاف إلى رواتب موظفي الدولة ورواتب المتقاعدين ومكافأة طلبة الجامعات ومستحقي الضمان الاجتماعي. أي أن تتم إعادة تدوير كامل الإيرادات الإضافية التي ستتحقق للدولة من رفع أسعار المشتقات النفطية إلى المواطن في شكل بدل يضاف إلى راتبه شهريا، ما يؤكد للجميع أن الهدف من هذا الرفع في أسعار المشتقات النفطية ليست زيادة إيرادات الدولة أو إرهاق كاهل المواطن بأعباء مالية إضافية وإنما فقط وقف الهدر وسوء الاستخدام، بحيث إن المواطن الذي يملك سيارة واحدة مثلاً يستطيع من خلال اقتصاده في استخدام سيارته أن يستفيد مالياً من هذه الزيادة بدلاً من أن يكون متضرراً منها، في حين أن مواطنا آخر يمتلك عدة سيارات سيجد أن الزيادة في تكلفتها عليه أكبر بكثير من أي تعويض سيحصل عليه، ما سيضطره إلى الحد من استهلاكه الجائر وإلا دفع ثمناً باهظاً لذلك. أما فيما يتعلق بدعم المنتجين فيلزم وضع جدول زمني يحدد نسبة معينة لرفع سعر الغاز المصاحب والنفط الخام المباع على شركات البتروكيماويات ومحطات التحلية وشركات الكهرباء، ما يعطيها الوقت الكافي لتحسن أدائها ورفع كفاءة استخدامها لمصادر الطاقة وإلا سترتفع تكاليفها التشغيلية بشكل كبير يضر بربحيتها وقدرتها التنافسية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي